نظام جديد عالمي يتكون ويلوح في الأفق، هذا الانتقال يدعو بالضرورة إلى نقد مشروعية النظام العالمي القديم، ويصبح السؤال عن كيفيه تشكل النظام الجديد وعلى جوهره وصوره وحدوده السياسية. حين نتحدث عن النظام العالمي، يتبادر إلى أذهاننا مناطق نفوذ وقوى عظمى ودول تابعة، وهو ما تشكل فعلا بعد الحرب العالمية الثانية حيث أصبح العالم مسيطر عليه من طرف قطبين عالمين هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، تلاه ما سمي بالحرب الباردة.
الدول العظمى لم توقف بعد توسعها وحروبها من أجل الاستحواذ واستغلال الخيرات الطبيعية لدول أخرى، مما اضطرها لقطع مسافات طويلة لشن حروب أو افتعال نزاعات، أو حروب بالوكالة بعيدا عن أراضيها. ربما لا يشعر العالم اليوم أن الصراع في شرق آسيا يمكن أن يمثل عاملا جديدا في ميزان القوى العالمي، على الرغم من كونه لا يبدو للعيان مؤثرا كبيرا ،لكنه سيكون على المدى القريب محددا أساسيا للخريطة السياسية الجديدة، وستبرز قوى إقليمية وعالمية جديدة ستعيد توزيع ادوار النفوذ بطريقة أخرى.
الصين ربما تنافس الأمريكيين ليس فقط في المحيط الهادي ولكن في شتى القارات، إلا أن الملاحظ اليوم أن كل العمليات الجبارة التي تتلاحق وتحت أنظارنا يوما بعد يوم، يبدو من الواضح تماما أن الصين لا تسعى أن تكون دولة عظمى بالمعنى الرأسمالي الإمبريالي العسكري، نظرا لفداحة التضحيات الإقتصادية والبشرية المطلوبة من ناحية، وكذلك إدراكا منها لحدود الفاعلية الحربية اليوم، في تحقيق أهداف النهضة الحضارية التي يسعى إليها الصينيون.
إذا نحن أمام أنماط جديدة من السيطرة،
لا تهدف إلى تغيير النظام العالمي بالوسائل الحربية
كما فعلت أمريكا، لكن تريد التواجد الفعلي
والعمل الاقتصادي والقوى الناعمة
ومن ناحية أخرى فقد أدركت الصين عبث التنافس العقيم، الذي كان بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا، يعني استفادت الصين من الدرس جيدا، فهي تهدف أن تصبح مركزا للتأثير والإشعاع الدولي لا مركزا ثالثا للقوه العسكرية، وهو هدف يتفق تماما مع هدف اليابان التي قررت في اعماقها الابتعاد عن طريق القوه الحربية والتركيز على التفوق الصناعي والتكنولوجي والريادي، وربما هو نفس السياق الذي تجري فيه كوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا.
إذا نحن أمام أنماط جديدة من السيطرة، لا تهدف إلى تغيير النظام العالمي بالوسائل الحربية كما فعلت أمريكا، لكن تريد التواجد الفعلي والعمل الاقتصادي والقوى الناعمة، على جعل آسيا والمحيط الهادي مركزا للتقدم في المجال التقني والتكنولوجي والصناعي وأيضا مركزا اقتصاديا مهما، محافظين في ذلك على الخصوصية الحضارية والثقافية والاجتماعية للمجتمعات الآسيوية.
كل المؤشرات اليوم تدل، حين يتم تحليل النظام العالمي الجديد، على أنها ظاهرة غريبة، لماذا لأننا أمام تطور تاريخي غير مسبوق، سريع ومشتبك، لا يشبه بتاتا التطور التاريخي الذي سبق الحرب العالمية الأولى أو الثانية، كما أن هناك أيضا دروس مستقاة من التاريخ قد تغير الكثير من المجريات العالمية، قد تكون ذات بعد إنساني أكثر منه إمبريالي.