القانون وتجارة المجوهرات
ولد ” حفيظ ” وعاش في احدى بوادي الشاوية بمنزل منعزل رفقة والديه و اخوانه الستة ، كان ” حفيظ ” واسطة عقد الاسرة التي كانت تعيش على الفلاحة و الكسب المعاشي ، تحقيقا لحالة الكفاف ، كان المنزل بسيطا في اثاته ،حصير يغطي ارضية البيوت الترابية بسطت على جنباته زرابي رثة بالوان باهته اصطفت فوقها وعلى طول الجدران مخدات من الحلفاء تحمي جير الطلاء من الاندثار نتيجة الاحتكاك و ملاحف صوفية خشنة و ازارات رصت بأركان البيوت في رحلة المساء و الصباح ، لا وجود لشبكة الماء و الكهرباء ، سوى بئر مجاور و فوانيس غاز .
وجبات الاسرة الغذائية مستنسخة حساء بالماء و الطحين والملح وخبز وشاي وزيتون صباحا و مرق متنوع الخضروات وخبز في الغداء و حساء وشاي وخبز عشاء ، يوم الثلاثاء يوم السوق الاسبوعي يحمل الاب ” عبد القادر ” منتوجات البيت من بيض و لبن و زبدة وبعض الخضر الموسمية لبيعها بالسوق و العودة بالتسويقة سكر وشاي و صابون وبعض الخضروات و قليلا من اللحم او السمك حيث تكون وجبة يوم السوق مميزة ، الوجبة الوحيدة التي يلتف حولها كل افراد الاسرة ولا مجال للتغيب .
يتواجد المسجد و المدرسة بالدوار المجاور على بعد كيلومتر واحد من “حطة عبد القادر ” ، لم يلتحق اخويه بكر الاسرة و الذي يليه بالمدرسة ، لكن حظ “حفيظ ” و اخته الاكبر منه ” سعاد” تزامن مع حملة التسجيل الإجباري بالمدارس و امكانية الاستفادة من الدعم الغذائي المخصص من طرف القيادة و المتمثل في كيسي دقيق و خمس لترات زيت للطبخ كل ثلاثة أشهر مع توفير لوازم وكتب الدراسة .
تابع ” حفيظ ” واخته الدراسة الى مستوى الخامسة ابتدائي ، حصل على الشهادة الابتدائية و لم تنجح ” سعاد” التي تجاوزت سن الثالثة عشر وتوقفت مسيرتها الدراسية عند هذا الحد كباقي بنات الدوار للتفرغ لأشغال المنزل لمساعدة والدتها و اعدادها للزواج .
حصل ” حفيظ ” على مقعد بالجناح الداخلي باعدادية مركز الجماعة ، تغيرت حياته راسا على عقب ، نظام حياتي جديد ، وجبات غدائية جيدة غير مستنسخة، فراش وتير ، انارة كافية و ماء الحنفية ، و رشاشات الاستحمام ….
كان على ” حفيظ ” ان يجد و يجتهد في دراسته ليس من اجل الدراسة و لكن ليحافظ على مقعده بالعالم الجديد و يستفيد من بحبوحة العيش بالداخلية و يرتاح من شظف الحياة بالدوار و رائحة دخان المطبخ الخانقة و الاستيقاظ باكرا لجلب الماء من البئر و احيانا الحطب و اعداد علف الماشية .
كان والده كلما جاء للسوق يزوره بإقامته ليصطحبه معه للمقهى الشعبي لشرب الشاي و اكل وجبة فول و حمص مسلوق منسم بالكامون والممزوج بالملح ، كانت اكلة ” حفيظ ” المفضلة .
تفوق” حفيظ ” في الدراسة الاعدادية و التحق بالثانوي ادبي بالمدينة .
تغير نمط الدراسة و كذلك الاقامة بالداخلية لم تعد الامور كما كانت من قبل بمركز الجماعة ، في المدينة كثرة الازدحام و سيادة الفردانية و الأنانية والاعتماد على النفس ، كما هو الشان كذلك بالجناح الداخلي بالثانوية .
تدرج ” حفيظ ” في دراسته وزاد تعلقه بطلب العلم و توسيع افقه المعرفي و نمت شخصيته و تقوت بالاحتكاك مع اقرانه بالجناح الداخلي .
حصل ” حفيظ ” من ضمن خمسة و عشرين تلميذا على شهادة البكالوريا أدبية و انتقل الى مدينة الدارالبيضاء لاتمام دراسته الجامعية بكلية الحقوق ، عالم جديد لا مجال فيه للخطأ و لا لركوب سفينة السذاجة و حسن النية .
لحسن طالع ” حفيظ ” تزامن التحاقه بالجامعة افتتاح اول حي جامعي بأحواز المدينة و بمحاداة الكلية ، استفاد من غرفة بإحدى أجنحة الحي الثلاثة رفقة صديق له من نفس الثانوية وكانت الاستفادة من الإطعام متوفرة بمطعم الحي الجامعي .
كلما تقدم عمر “حفيظ” ومستواه الدراسي و تحصيله العلمي كلما زادت استقلاليته عن اسرته التي تأزمت حالتها المادية مع توالي سنوات الجفاف .
التحق ” حفيظ ” بالدوار لجمع ملابسه و بعض اغراضه و اغتنام انعقاد السوق الاسبوعي الذي يصادف يوم الثلاثاء لبيع خروف له لتسديد واجبات الكراء و الضمان و المطعم بالحي الجامعي في انتظار الاستفادة من المنحة الجامعية
تيسرت امور ” حفيظ ” كانت اول سنة له بالجامعة موفقة ، استفاد من المنحة و تفوق في السنة الأولى دراسيا ، كانت السنة الاولى تمثل عقبة في وجه الطلبة .
ادخر ” حفيظ ” مبلغا ماليا مهما من منحته ، اشترى بعض الأغراض و الملابس لوالدته و والده و اخوته و اقتنى سلعة مختلفة لعرضها بالسوق الاسبوعي كل يوم ثلاثاء .
تمكن ” حفيظ ” من تحقيق بعض الارباح من تجارته الموسمية بالسوق الاسبوعي خلال عطلته الصيفية ، اقترحت عليه والدته ” لالة شافية ” شراء بقرة و هي من ستتكلف برعايتها على اساس اقتسام الربح بعد خصم راس المال و المصاريف عند البيع ، استجاب ” حفيظ” لاقتراح والدته و تم الشراء من احد سكان الدوار الذي انهكه توالي سنوات القحط و الجفاف .
التحق ” حفيظ “بالدراسة، كانت سنة عصيبة بالكلية ، الاضرابات و الاعتصامات نهارا بالحرم الجامعي و الحلقات و المناوشات ليلا بالحي الجامعي، عرفت الدراسة تعثرات متتالية ، لزم خلالها “حفيظ “و زميله غرفتهما للمراجعة اعتمادا على مقرر السنة الثانية الذي اقتناه من احد اصدقائه الذي انقطع عن الدراسة بعد نجاحه في مباراة المحررين القضائيين.
توالت الاضرابات و تم اعتماد الاصلاح الجديد للجامعة ، اربع سنوات بدل ثلاث سنوات مدة الدراسة للحصول على الاجازة ، تنفس ” حفيظ ” الصعداء لكونه ربح سنة نتيجة المثابرة خلافا لأقرانه الذين ضيعوا السنة الأولى.
كان ” حفيظ ” موفقا خلال السنة الثانية و السنة الثالثة ، حصل على شهادة الاجازة بامتياز ، و انجبت البقرة عجلا و اصبحت تنتج حليبا يذر على والدته موردا من تعاونية جمع الحليب المجاورة للدوار .
كان ” حفيظ ” كل عطلة صيفية يمتهن نشاطا موسميا بالسوق الاسبوعي يذر عليه بعض الارباح لتغطية مصارف الحياة .
حصل ” حفيظ ” على الاجازة ، توقفت المنحة ، بدأ يستعد لاجتياز مباريات التوظيف لكن حظه التعيس ان المباريات اصبحت مرهونة بأداء الخدمة المدنية او الاعفاء منها .
تقدم ” حفيظ ” بملف الخدمة المدنية بعد ثلاثة أشهر توصل بوثيقة الاعفاء من الخدمة ، ابتسم الحظ ثانية ل ” حفيظ ” موعد مباراة الولوج لسلك القضاء تم الإعلان عليه ، ترشح للمباراة و انزوى بغرفة بالدوار رفقة كتبه و مراجعه للتحضير للامتحان الاول المصيري في حياته ، ظلت ” لالة شافية ” تخدمه ، اعداد الشاي و تقديم بعض المكسرات و الحلويات المخزونة في صندوق خشبي من اثاث صداق ” الدفوع” زواجها و الممنوعة عن بقية افراد المنزل و المخصصة للضيوف المحتملين .
ابتسم الحظ من جديد ل ” حفيظ “واجتاز امتحانه الحياتي الثالث بامتياز ، كتابيا و شفويا ، التحق بمدينة الرباط للتكوين بالمعهد الوطني للدراسات القضائية.
تخرج و عين قاضيا متدربا بإحدى مدن الشمال .
بعد قضاء سنة ، الحق بالنيابة العامة لنفس المحكمة ، خبر وجها آخر لإعمال القانون في مواجهة آفات و ظاهرات اجتماعية بالمجتمع ، تقوت شخصيته بالاحتكاك المستمر بالملفات و القضايا الشائكة و علاقته مع مساعدي القضاء بكل انواعهم ، خبر اشياء جديدة صقلت تراكم معرفته النظرية للقانون و مساطره .
بعد قضاء اربع سنوات من ممارسة القضاء الواقف ، تم الحاقه برئاسة محكمة بالجنوب واسندت له قضايا الاحوال الشخصية والتي كانت تحكمها الى جانب القانون و مساطره بعض العادات و التقاليد .
اصبح الاستاذ ” حفيظ ” علما على جبل بحكم قراراته و أحكامه المحققة لغايات و مقاصد القانون و الشريعة و الاستقرار الاجتماعي ، اصبح مرجعا يعتد به من طرف زملائه .
برز نجمه و اصبحت ملخصات قراراته و احكامه تنشر بالدوريات و النشرات القضائية ، اتخد المجلس الأعلى قرارا بتعيينه قاضيا للتوثيق بإحدى المدن التقليدية التاريخية ، واصبح قاضي المدينة له دور محوري الى جانب محتسبها و سلطتها باعتبارهم اعضاء لهيئة حكماء المدينة ، الشيء الذي زاد من معرفة الاستاذ الجليل ” حفيظ ” بزوايا اخرى من الحياة المجتمعية .
زاره احدى ايام الصيف صهره اب زوجته التي ارتبط بها خلال عمله بالشمال ، واستهوته الحركة التجارية بالمدينة القديمة بحكم انه كان يمارس تجارة الذهب ، فاقترح عليه ان يكتري متجرا للاوقاف والاشتراك معه في فتح محل للصياغة ، استهوت ” حفيظ ” الفكرة ، وكلف صهره بإعداد تصور للمشروع و كلفته المالية و ربط الاتصال بنظارة الاوقاف لتدبير محل تجاري بالمحلات المتخلى عنها بحكم ركود تجارة البقالة .
تمت كل الاجراءات و سلم الاستاذ ” حفيظ ” مبلغا مهما من مدخراته لصهره ، واستأنفت العملية التجارية ، والتي اصبحت زوجة الاستاذ ” حفيظ” مشرفة عليها بجانب والدها ، تطورت ونمت تجارتهما و تم توسيعها بفتح محل ثاني بقيسارية المجوهرات بالحي الجديد بوكالة خاصة من ” حفيظ ” لزوجته لكون وظيفته تمنع عليه ممارسة نشاط تجاري .
اصبحت علاقة الاستاذ بصهره و زوجته التي لم ينجب منها علاقة تجارية محضة .
طغى الفكر التجاري على الاستاذ ” حفيظ ” وقلل من اهتماماته القانونية القضائية ، وفوض تدبير بعض اختصاصاته لمساعديه .
بعد مرور سبع سنوات على ممارسته مهمة قضاء التوثيق بالمدينة ، حلت لجنة تفتيش مركزية وقفت على اختلالات في التدبير ،خصوصا ملفات المحاجير وقدمت له بعض الملاحظات لتجاوزها .
بعد مرور ثلاث سنوات على تجارة المجوهرات ، طلب ” ذ حفيظ ” من زوجته و صهره انجاز بيانات حسابية لتقييم تجارتهم ، بدا له ان الامور ليست على ما يرام ، قرر انهاء العلاقة التجارية مع صهره الذي تقدم في السن ، وكانت المفاجئة ، سجل المحل الثاني المتواجد بالقيسارية باسمه ، و تبين له ان المحل الاول باسم زوجته ، ورطة ” ذ حفيظ ” وبحثه عن مخرج انساه كل ماخبره من قانون و ما اصدره من قرارات و احكام و ما انجزه من بحوث و استنطاقات ، حتى ان ما قدمه من مدخراته لفائدة المشروع التجاري كان بدون حجج ولا عقود .
ادرك الاستاذ ” حفيظ ” ان تجارة السوق الاسبوعي و شراكته مع ” لالة شافية ‘ تختلف عن تجارة المجوهرات و الزوجة و الصهر ، ضاع كل شيء ، المدخرات و التجارة و انفصل عن الزوجة ….
انتقل الى المدينة مركز اقليم مسقط رأسه للعمل بمحكمة الاستئناف كمستشار ، خلال زيارته للبيت بالدوار حيث تغيرت كل شيء، الربط بشبكة الماء والكهرباء ، تحسنت بناية المنزل و الاثاث وكل شيء ، رافقته ” لالة شافية ” لحضيرة المواشي ، كانت تضم سبع بقرات و خمس عجول ، خاطبت الوالدة الولد الاستاذ ” هذا من فضل الله ، هذه البقرة وهذه خلفتها “، ربت تجارة الام و كسدت التجارة الاخرى ..
قرر ” ذ حفيظ ” فتح محل تجاري لاخيه ” عبد الجليل ” الذي خبر تجارة الصياغة بالجنوب ، تم تجهيز المحل و اتصل باحد الاشخاص الذين يتاجرون في سبائك الذهب الذي اقترح عليه شخصا مقيما بإحدى الدول الغربية من اصل يهودي يتاجر في سبائك الذهب بشكل قانوني ، ربط الاتصال تم تحديد المواصفات و كمية الطلبية و قيمتها المالية وكان المبلغ مهما ، تم القيام بكل الاجراءات، تسلم اخ ” ذ حفيظ ” السلعة و تم تسديد نصف القيمة نقدا و النصف الثاني كمبيالات .
استانف النشاط التجاري بالمحل و انشغل “ذ حفيظ ” بعمله القضائي يزور المحل من حين لآخر و يتمتع بكأس شاي معتقد من اعداد ” با فويخرة ” القهواجي المجاور للمحل .
مع اقتراب عيد الاضحى ، كانت المفاجأة ، اتصل ” عبد الجليل ” بالأستاذ ليخبره ان امرا خطيرا حصل و طلب منه الالتحاق به بالمحل .
دون تردد و بعد عشرين دقيقة كان الاستاذ بالمحل وجد ” عبد الجليل ” مدعورا وخاطبه ” كارثة ، كارثة ، السبائك مزورة فقط جزء قليل حقيقي ” ، غادر الاستاذ المكان دون كلام بعد ان تواصل هاتفيا مع شخص ما ، يبدو ان الجواب كان صادما فقط جملة واحدة رددها ” ضاعت ستين مليون في الاول و دابة ثلاثمائة مليون على الله الخلف يا ولد شافية ” .
غاب الاستاذ عن المحكمة و عن المحل ، عن الدوار ، كانت سيارته الخاصة مركونة امام منزله دونما إدخالها للمرآب ، الشيء الذي اثار فضول وشكوك اخيه المقيم باحد الاحياء الشعبية بالمدينة ، اخبر الشرطة التي انجزت المساطر المطلوبة وداهمت البيت بعد تكسير الاقفال ، كانت جثة الاستاذ المنتحر مشنوقة بحبل بفناء المنزل و كرسي كبير ملقى ارضا …..
وري الاستاذ الترى رحمة الله عليه و ظلت ذكراه بردهات المحاكم و منشوراته و احكامه نبراس للأجيال حملة البدل السوداء الخضراء و زادت بقرات حضيرة ” لالة شافية ” وافلست تجارة المجوهرات واغلقت المحلات و رجع الاخ للدوار و الزوجة الطليقة لمسقط راسها بعد وفاة ابيها بمرض السرطان .
الجديدة 2022/09/24