براءة القصد وغدر الزمان
كانت “حليمة ” وحيدة الاسرة ، ملأت فضاءات البيت العتيق بالمدينة القديمة حيوية و نشاطا ، كانت رشيقة ، خفيفة الظل ، متقدة الذكاء ، مرحة ، كلما تقدم بها السن كلما زادت اركان البيت جمالا و جاذبية ، غطت على العبوس و الكآبة اللتان لازمتا جبيني امها و ابيها المتقاعدين ، جاء ميلاد ” حليمة ” نتيجة زواج في عمر متأخر لابويها ، اضفت على البيت سعادة بقدومها و شغلت بعويلها و تربيتها و الاعتناء بها امها عن سلوكات الاب السلطوي والمتقلب المزاج .
كبرت ” حليمة ” و تابعت دراستها بتفوق ، ولجت معهد تكوين الممرضين و الممرضات ، تخرجت بامتياز ، عينت بمستشفى المدينة بمصلحة المساعدة الاجتماعية ، طبيعة العمل ونوعيةالمستفيدات من خدمات المصلحة مكن ” حليمة” ذات التسعة عشر سنة من اعادة قراءة المجتمع و خباياه من زاوية الحقيقة لا من منظور الخيال و طوباوية الحياة ، تكونت شخصية “حليمة ” لبنة لبنة ، بخلية الاستماع للنساء و الفتيات ضحايا غدر الزمان و المكان و الانسان و القضاء و القدر .
اصبحت ” حليمة ” مثقلة بهموم المجتمع و مشاكله والبحث عن الحلول من خلال الزيارات و البحوث الاجتماعية الميدانية التي تقوم بها لفائدة المحاكم و المصالح الامنية و الاجتماعية و السلطات المحلية الشيء الذي وسع من دائرة معارفها و نفوذها و فتح لها نافذة حقيقية على المجتمع و خباياه ، مجتمع لا مجال فيه للضعيف و الساذج و البليد ، مجتمع تسوده سلطة القوة والدهاء و المال و الذكاء و الجاه و اشياء اخرى … تعيد ” حليمة ” قراءة الملفات و البحث عن الحلول حتى في احلامها .
انقلبت حياة ” حليمة” راسا على عقب خصوصا بعد مرض ابيها مرضا عضالا الزمه الفراش و اصابة والدتها بداء السكري الحاد ….هموم البيت و المصلحة و ملفات الابحاث ، إضافة إلى مهمتها الجديدة في تدبير مصلحة الاطفال المتخلى عنهم و مباشرة قضايا الامهات العازبات و تتبع ملفات الكفالة بالمحكمة .
توفي الوالد وظلت ” حليمة ” ترعى والدتها التي كانت كل مرة تشير عليها بضرورة تكوين عش الزوجية لانها تريد ان تفرح بها قبل مماتها ، تتجاهل ” حليمة ” كلام الام ، لكن هذه المرة بملحاحية في الخطاب و احساس ام جد عميق ، كان وقع الكلام مؤثرا على نفسية ” حليمة ” .الساعة تشير الى الثامنة ليلا رن هاتف ” حليمة ” وطلب منها الالتحاق بمصلحة الاطفال المتخلى عنهم بالمستشفى لامر مستعجل .وصلت ” حليمة ” لعين المكان بعد ان استقلت سيارة اجرة كانت عابرة بجوار المنزل ، قطعت المسافة شاردة الذهن وهي تتخيل اشكال و انواع من المشاكل عاشتها بالمصلحة وتتدبر طرق حلها .
دخلت الجناح رمقت عيناها ” حميد ” محسن اعتاد على تزويد الجناح بحفاضات و حليب الأطفال بعد وفاة والده ” الحاج ابراهيم ” صاحب مراكب للصيد البحري الذي كان نشيطا بالكثير من الجمعيات الاحسانية بالمنطقة .تقدمت المكلفة بالمداومة رفقة ” حميد ” وبعد التحية ، واخبرت ” حليمة ” ان الحصة الشهرية من الحفاضات و الحليب المخصصة للمركز موجودة بالسيارة يتعين تسلمها ، امرت ” حليمة ” الممرضة دعوة الحارس الليلي و حارس الأمن بإدخال المواد للمستودع وإعداد جرد لها .سلمت ” حليمة ” وصل بجرد المواد ل ” حميد” و همت بإغلاق مكتبها و اتجاه للشارع بحثا عن سيارة اجرة للعودة لبيتها .تقدم لها ” حميد ” الذي كان متوجها لسيارته و اشار عليها بالركوب فاتحا باب السيارة المحادي له مفاجئها بايصالها لمنزلها ، مع صدمة المفاجئة و صعوبة الحصول على وسيلة للنقل في ذاك الوقت المتأخر من الليل ، لم تشعر الا وهي جالسة فوق مقعد سيارة ” حميد ” وبعد تحديد موقع المنزل انطلق السيارة مسرعة ، ساد صمت رهيب بالسيارة قطعه صوت المدياع الذي شغله ” حميد ” كان صوت المطربة ام كلثوم يصدع في ارجاء المكان ” الحب كده ” .كان زمن قطع المسافة بين المصلحة والمنزل قياسيا حيث نابت الاحاسيس و المشاعر الداخلية المكبوتة و كلمات ام كلثوم و آهاتها على دواخل ” حليمة ” و ” حميد ” .غادر ” حميد ” المكان بعد شكر ” حليمة ” له و تدوينه رقم هاتفها بمذكرة هاتفه و مدها برقم هاتفه للحاجة . دخلت ” حليمة ” البيت ، غيرت ملابسها و ناولت امها الدواء و اعدت فنجان قهوة ، و جلست تعيد شريط عملها اليومي وكأن شيئا غير عادي طرأ على حياتها الاعتيادية ، تركز في عملها اليومي و ترتب برنامج عمل الغد إلا ان حبل التفكير ينفلت منها الى رحلتها مع ” حميد ” من مقر عملها الى البيت ، و كأنها تنتظر مكالمة او برقية منه. ظلت كل لحظة تراقب هاتفها ، الى ان توصلت من ” حميد ” برقية ” تصبحي على خير ” ردت عليها ” شكرا وانت من اهل الخير ” غالبها النوم فاستسلمت له . توالت الايام و اصبح عمل المساعدة الاجتماعية روتينيا وعلاقتها مع الجميع تطبعه قواعد و ضوابط المهنة …في احدى الليالي اشتد مرض امها بسبب ارتفاع نسبة السكر و الضغط الدموي ، حاولت الاتصال بإحدى زميلاتها لكن دون رد ، جن جنونها ، و بدون تفكير ، ركبت رقم ” حميد ” من اول رنة رد عليها كأنه ينتظر مكالمتها ودون مقدمات ” لو سمحت امي مريضة واريد نقلها للمستشفى ” دون ان يعطيها فرصة لاتمام كلامها ” حاضر عشر دقائق و اكون عندك ” .حضر ” حميد” تم نقل ” فاطمة ” الى اقرب مصحة، تم اجراء كل الفحوصات اللازمة ، تمت احالة ” فاطمة ” على طبيب القلب و الشرايين ، سلمت لها وصفة طبيبة بالأدوية اللازمة ، اخد ” حميد ” الوصفة و خرج للصيدلية المجاورة ، سدد كل الواجبات رغم ممانعة ” حليمة ” و نقل الام و البنت من جديد للمنزل وغادر بعد كلمات الشكر و الاعتذار .
توطدت علاقة ” حليمة ” ب ” حميد ” و امتدت الى الجلوس بالمقهى و تبادل الحديث ، حصل تعارف قوي بينهما ،اصبح من حين لآخر يزور والدتها بالبيت للاطمئنان على صحتها …ادركت الام ان بنتها تعلقت ب ” حميد ” وكانت تبدي إعجابها به و بأخلاقه وتردد دائما ” الله ييسر ليكم ابنتي ” .خلال عطلة ” حليمة ” السنوية ، اقترح ” حميد ” عليها السفر الى مولاي يعقوب وافران لتغيير الجو رفقة والدتها و هو من سيتكلف بالسفر رفضت الفكرة ، لكن خلال زيارته ل ” فاطمة ” كرر الاقتراح للام فوافقت بإحساس ام تريد الاطمئنان على مصير ابنتها و كأن شيئا ما سيقع .
تم السفر توطدت العلاقة فيما بعد بين ” حميد” و ” حليمة ” الى درجة العشق و التفكير في الزواج ….تم وضع ترتيبات الزواج حال دونها مرض الام المفاجىء ، دخلت ” حليمة ” في علاقات حميمية مع ” حميد” زوج المستقبل ، اصبح يتردد على منزل ” حليمة ” باستمرار ، اشتد المرض على ” فاطمة ” نقلت للمستشفى لكن سكتة قلبية مفاجئة عجلت بوفاتها .
دخلت ” حليمة ” في حالة اكتئاب و انطوائية افقدتها التركيز في عملها ، لزمت البيت لمدة اسبوع و اغلقت الهاتف و قطعت علاقتها بكل شيء .استأنفت عملها ، بعد ترتيب امورها و انتهاء مراسيم العزاء و ظل ” حميد” هو السند الوحيد لها .بعد انتهاء فترة الدوام احست بتعب شديد و غثيان ، نصحتها الممرضة المساعدة بزيارة الطبيبة المداومة بالمستشفى ، بعد اجراء الفحوصات كانت المفاجئة على لسان الدكتورة المعالجة ” مبروك حليمة انت حامل ” نزل الخبر كالصاعقة على ” حليمة ” ، غادرت المكان مذعورة ، انزوت بمكان بعيد بالمستشفى و اتصلت ب ” حميد ” لم يعطيها فرصة للكلام اشار لها ان احد اعوانه في اتجاه المصلحة لتسليم الحصة الشهرية من الحفاضات و الحليب ، قاطعته بانفعال ” انا حامل يا حميد ، انا حامل ” و اجهشت بالبكاء ، اجابها ” انا في طريقي لمدينة الداخلة للوقوف على اصلاح احدى مراكب الصيد و ساعود حال انتهاء المهمة ” وقطع المكالمة .
نزل كلام “حميد ” عليها كقطعة ثلج باردة ، استقلت سيارة اجرة لبيتها ، و بدأت تسترجع قصص كل الامهات العازبات اللواتي استمعت لهن كانها تبحث عن حل يناسب حالتها ، وكل مرة يشتد نحيبها …..بعد مرور ثلاثة أيام حاولت الاتصال ب ” حميد ” كان الهاتف مغلقا ، عاودت الاتصالات دون جدوى .
خلال تواجدها بالمكتب تقدمت عندها الممرضة المساعدة قصد توقيع وصل استيلام الحصة الشهرية للحفاضات والحليب لتسليمها لمساعد ” حميد ” .اخدت المساعدة الوصل بعد توقيعه و اخبرت ” حليمة ” انها ستتصل بمساعد ” حميد ” للمجيء لاخد الوصل وانصرفت ، بعد بضع دقائق رجعت المساعدة مذعورة ” حميد مات مات ، الله يرحمه ” ، سقطت ” حليمة ” ارضا مغمى عليها ، استيقظت من غيبوبتها لتجد نفسها فوق سرير المصحة المجاورة ، حاولت استرجاع قواها وهي تتلمس بطنها و فكرها شارد عشرات الصور تتخيلها .
جاءت الممرضة المساعدة لزيارتها ، حيث اخبرتها ان سبب وفاة ” حميد” تعرضه لحادثة سير على مستوى مدينة طانطان في طريق عودته من مدينة الداخلة بسبب السرعة المفرطة …. تم نقل جثة “حميد “للمدينة و دفن بالمقبرة متوى اب و ام ” حليمة ” .تغيرت اشياء كثيرة في حياة ” حليمة ” فقدان الاب و الام و رفيق الحياة وتغير طعم كل شيء حتى الحفاضات و حليب الأطفال نفد و غاب الاحساس و كل الاشياء الجميلة ، تتضارب الافكار و تتصارع في مخيلة المكلومة ” حليمة ” لم تعد تعير اي اهتمام لمن يحيط بها ، راجعت افكارها السابقة و اصبحت تلتمس الاعذار للنساء اللواتي زرنها سابقا .
بلغ حملها شهره الرابع ، صراع مرير ، وخوف رهيب ، واحساس بالدنب ممزوج بالبحث عن الخلاص ، وحشتها و خوفها من المستقبل وكل هذه الاشياء مجتمعة شجعتها للابقاء على الجنين و التفكير في مواجهة اللوم المجتمعي .
تقدمت ” حليمة ” بطلب انتقال الى احدى المدن المجاورة معززة طلبها بشهادة مرض الاكتئاب الحاد و ضرورة تغيير مكان الإقامة و العمل ، تمت الاستجابة لطلبها ، وتم تعيينها بجناح طب النساء و الولادة .خف الضغط الرهيب على ” حليمة ” ، كلما حضرت ولادة امرأة شابة الا و تخيلت حالتها ، و ضعت عشرات الاسئلة ، علها تجد حالة مشابهة لحالتها لتستنسح نفس الحلول ، رغم ذكائها و خبرتها و تجربتها ، اختلت عندها كل الاشياء كانها أصيبت بمرض فقدان الذاكرة .قارب حملها من شهره التاسع ، انتفخ البطن ، وتملكها شعور بان كل الاشخاص يعرفون قصتها ، وكيف ستواجههم ، زارت طبيبة قسم الولادة ، بعد اجراء الفحص بالصدى ، اكدت لها ان الحمل صحته جيدة ، و زفت لها انه ” انثى” وان الوضع سيتم خلال الثلاثة ايام الموالية .
وضعت ” حليمة ” بجناح الولادة بالمستشفى ” بنتا ” تلقت الام و المولودة كامل الرعاية .اتصلت ” حليمة ” بصديقتها الممرضة المساعدة السابقة اخبرتها بوضعها لمولودة بنت ، في اليوم الموالي حلت ” عائشة ” في زيارة لزميلتها بعد طلب عطلتها السنوية .ظلت ” عائشة ” في رعاية ” حليمة ” و مولودتها بالبيت .كانت ” عائشة ” تعرف كل شيء عن ” حليمة ” اشارت عليها باستشارة احد الاساتذة القضاة بخصوص و ضعيتها ووضعية بنتها او الاتصال باسرة ” المرحوم حميد” باءت كل المحاولات بالفشل وتبين ان القانون لا يحمي المغفلين و لا يجعل من الاحساسات و العواطف وسائل اثبات قانونية للنسب و الحقوق .قامت بتسجيل المولودة الجديدة بالحالة المدنية واختارت لها اسم ” امل” بنت حميد و حليمة المسغوني .عادت الامور الى مجراها الطبيعي و استانفت ” حليمة ” عملها وغادرت ” عائشة ” بعد انقضاء عطلتها .كانت ” حليمة ” تصطحب معها بنتها لجناح الاطفال بالمستشفى ، الى حين بلوغها سن الرابعة حيث الحقتها بروض الاطفال المجاور للمشفى .كرست ” حليمة ” كل حياتها لرعاية ” امل ” وكل مرة تحاول التفكير في اجوبة محتملة للأسئلة مؤجلة ل ” امل ” حول الاب و الأسرة ، امتحان عسير عاشت ” حليمة ” الاعداد له .كبرت ” امل ” و كبر حجم الاسئلة عندها حيث اصبحت كمحقق في جريمة قديمة يفكك الغازها ، انهارت امامها ” حليمة ” الفاعل و الضحية و اعترفت بكل التفاصيل وتم حفظ الملف قبولا بالامر الواقع لكنه ظل مفتوحا نفسيا و اجتماعيا.
ظلت عيون ” حليمة ” على تربية بنتها ، كبرت البنت و توسعت دائرة مسؤولية الام . تجاوزت ” حليمة” سن الاربعين انغمست في عملها و تربية ” امل ” وتناست كل الاشياء القديمة و كل الاحاسيس و المشاعر و حتى الملفات القديمة و أسرارها. اجتازت ” امل ” امتحانات البكالوريا العلمية بامتياز وكذا مباراة كلية الطب و الصيدلة . واصبح طبيبة داخلية بجناح الولادة الى جانب ” حليمة ” الممرضة الرئيسية بالجناح ، فتحت ” حليمة ” قلبها للطبيبة ” امل ” وكانت كل مرة تحكي لها فصلا من قصة حياتها خوفا من تكرار مأساتها ومأساة الآلاف من ضحايا العواطف الجياشة في مجتمع لا يرحم .
و تستمر الحياة … الجديدة 2022/09/23