المعزوفة الأخيرة
بقلم/ نعيمة السي أعراب
هذا المكان لي. يهتز نبضُه، كما نبضُ صاحبه، على إيقاع نبض أوتاري. أنظر بِرضاً حولي؛ كل قطعة من أثاث الغرفة، وهي تعكس أشعة الشمس المتدفقة بسخاء عبر النافذة، تكاد تنطق شاهدةً على شغفه بي؛ بينما أريج عطره، الذي ما زال ملتصقاً بعنقي الذهبي وبجسدي الأسمر اللامع، يمتزج مع النسيم العليل الآتي من الحديقة مداعباً وجهي. وكأنها سيمفونية؛ اِئتَلفَت عناصر الطبيعة مع ذِكراه لتعزفها على شرفي.
يغمُرني انتشاء عارم، فأتمدد في تكاسل لذيذ على السرير الوثير، وأعود بأفكاري إلى ليلة أمس، أستحضر لطفه وأستعيد صدى كلماته وأثر لمساته. أهيم مع أحلامي الوردية، وهي تغادر الغرفة من النافذة، محمَّلةً على أنغام أجوائها، لتحلق بي في الأعالي رفقة الطيور المغردة قبل الانعطاف مع أشعة الشمس راجعةً أدراجها، ثم تنفصل عني منسلَّة عبر الباب الذي انفرج، فجأة، معلناً عن قدوم الخادمة الجديدة بمريلتها البيضاء وسحنتها الصفراء. جسد نحيل وملامح حادة، مع انحناءة تشي باستعدادها للشروع في العمل وتنفيذ الأوامر في بيت يبدو كل متاعه خاضعاً لأوامرها هي. عُدة التنظيف تُوضع جانباً، القميص والجاكيت يُرفعان من فوق الكرسي ويُرجعان إلى الدولاب، قطع الملابس المبعثرة على الأرض تُلتقط لتُوجَّه إلى آلة الغسيل.
حينها فقط، تنتبه إليَّ ويخترق مسامعي صوتُها الرنَّان متسائلاً عن سبب وجودي على السرير بينما عيناها تحدقان فيَّ باستغراب، مؤكدةً أن مكاني ليس هنا. وقبل استيعاب قصدها، أجد عنقي مخنوقاً تحت قبضتها، متحكمةً عبره في باقي جسدي. اختناق سينضاف إليه شعور بالدوار ما إن نبلغ السلالم ويقع بصري على أسفلها السحيق. ومع كل درج تنزله بي، يزداد ذعري عند اقتراب حافته من ملامسة لوح ضلوعي، حتى أوشك الجزم أنها ماضية بي إلى حتفي. بالكاد ألتقط أنفاسي عندما تطأ قدماها أرضية الطابق السفلي وأحس بارتخاء قبضتها حول عنقي؛ لكن سرعان ما يخيب ظني إذ تتابع خطواتها هبوطاً إلى القبو، متجهةً نحو حجرة شبه معتمة، تضيئها أشعة شمس متسللة من نافذة مسيَّجة أعلى الجدار، وتطفو في سمائها رائحة العرق. هناك، يُقذف بي على الأريكة الجلدية الحمراء في الوسط قبل أن يُصفَق الباب بقوة.
أشعر باستياء كبير، يتفاقم بمجرد ملاحظتي لمحتويات الحجرة. آلات موسيقية معلقة على الحيطان، وأخرى مركونة في الزوايا أو ملقاة بإهمال على الأرض. قطع من مختلف الأشكال والأحجام تملأ المكان وتتزاحم كما تتزاحم الأسئلة في ذهني؛ لماذا أخفى عني وجودها وما حاجته إليها؟ هل هنا كان يقضي أوقاته عندما يغيب عني ويعود آخر الليل، فيخلد توًّا للنوم دون إلقاء نظرة عليَّ؟!
أفيق من شرودي لِأرى الآلات الموسيقية تتحلق حولي، وهي تعزف بشكل فوضوي تعلوه نغمة متكررة: “من أنتِ أيتها الغريبة؟”.
أرفع عنقي وأجيب بِصوت واثق: “أنا قيثارة السيد!”. تنفجر الجوقة ضاحكةً، وتندفع نحوي “مندولين”، خشبُها باهت وخيوطُها مرتخية، تدندن لحناً أجش، تنعتُني بالحمقاء قبل إعلامي بأنها مُفضَّلتُه، وتحكي لي كيف يشد أوتارها ويجرها بقوة خلال النقر عليها، مؤكدةً استمتاعه معها.
لحنٌ تستنكره “دَربُكة” تشقَّق خزفُها، وهي تتقدم نحوي وتطبل بأنها هي مُفضَّلتُه، حتى إنه يضرب عليها بكل جهده ويصل معها إلى حالة جذبة قصوى، فلا ينصرف عنها إلا وهو يتصبب عرقاً.
تتقافز “كلارينيت” مُنسلَّةً بينهما، وهي تُصفِّر بأنها الأحق بالتفضيل، فوزنُها الخفيف وشكلها الرشيق يمكِّنانه من تحريكها بمرونة، بينما ثقوبها الوفيرة تمنحه الحصول على أنغام متنوعة.
تقاطعها “أورج” ضخمة، فقدت عدة أزرار من لوحة مفاتيحها، بأنها المفضَّلة دون منازع، فهو يهمس لها بأعذب الكلمات، وتترنم بها على الفور لتأكيد مزاعمها.
أُفاجَأُ بالكلمات نفسها التي يرددها على مسامعي. تلك الكلمات التي كانت تتساقط على طبلة أذني مثل حبات كريستال؛ تتلألأ في سماء قلبي كما النجوم، فتضيء ليله وتؤنس وحدته. هي الآن شهب نارية مسلَّطة على أرضه، تحرق الأخضر واليابس.
هكذا تمضي بقية النهار في لغو وجدال محمولَين على ألحان تشتد حدتها وترتفع مع كل مُدَّعية تتبجح بِكونها المفضلة لديه. أحاول إسكاتها جميعاً وإبعادها عني، لكنها تلتف حولي حتى تكاد تخنقني، وأجدني موزعة بين شعور بالشفقة على الآلات الموسيقية البئيسة وعلى عازفها الشقي، وبين شعور بالغثيان ورغبة في الخروج من جحيم لم أختره.
رغم الصخب المستمر، تلتقط أذناي وقع قدمين تنزلان الدرج وتقتربان من الحجرة، وها هو الباب ينفتح على من خِلتُه مولعاً بي وحدي. حاجباه معقودان، فكه مشدود، وشفتاه منقبضتان. أما عيناه فمُظلمتان، تنتقلان بيني وبين الجوقة التي توقفت عن الشدو. نظراته حائرة تشي بمزيج من الغضب والحزن والحرج.
يحملني بين ذراعيه ويسير دون الالتفات خلفه. يخيل إليَّ، وهو يصعد الدرج، أنه يطير بي ليوصلني إلى الطابق العلوي، هناك حيث كان يراقصني بالأمس الذي يبدو لي الآن، رغم قربه، ماضياً بعيداً. في الغرفة، يضعني برفق على السرير حيث لم أكن أنام إلا على همسه، ويجلس على الكرسي المقابل، مُطرقاً وهو يمسك برأسه. أقرر كسر جدار الصمت، وأصدح بلحن شجيّ لأغنية يعرفها كِلانا، كلماتها لوم وعتاب.
يرفع رأسه مذهولاً: “تعزفين؟!”.
أجيب بالإيقاع نفسه، فيوقفني بحركة ناهية من يده، ثم يستدرك: “اِسمعي أيتها الجميلة، أعلم أن لديكِ الكثير من المميزات، ولا أنكر افتتاني ببشرتك الذهبية الناعمة، كما بمنحنيات جسدك الممشوق وبمخارج نغماتك… لكن في آخر المطاف، لستِ سوى آلة موسيقية، مثلكِ مثل غيرك!”.
هل نسي حين كان يغني لي بأني الوحيدة في حياته، وإنه لي وحدي بعدما وجد السعادة في قربي، وجعلني أتبوأ مكاناً خاصًّا في غرفته وفي قلبه حتى أيقنتُ من اختياره لي عن حب واقتناع؟!
وكأنه يفطن إلى سؤالي، إذ يعود ليستفسر عن سبب انزعاجي من الآلات الأخرى. أكظم غيظي وأفكر أنه لم يكتفِ بإخفاء وجودها عني، بل تجاوز ذلك إلى التضليل. كم مرة أكد لي مقتَه لمن يتباهى باللعب على أكثر من آلة، كما احتقاره لمن يرضى التوقيع بأنامله على آلة هجينة وغير أصيلة!
تثور ثائرته وكأنه التقط معاني لحني: “أنا مهووس بالموسيقى! لا تهمني الآلة في حد ذاتها، ما يهمني هو النغم الذي أحصل عليه من خلالها!”.
لا أستغرب الأمر، فهو أصلاً يغمض عينيه أثناء العزف. ألوي عنقي جهة الحائط مُعرضةً عنه، لكنه يديرني عنوةً: “أنظري إليَّ حين أكلمك! ألستِ أنتِ من أوحيتِ لي، منذ لقائنا الأول، بأني عازف ماهر؟.. وإذاً، ألا يحق لي تجربة آلات أخرى والاستمتاع بطربها؟”.
لن أنسى لقاءنا الأول. ذاك القوام الفارع الذي اقتحم، بخطوات راقصة، محل العم مسعود بائع الآلات الموسيقية، وطفق يجرب على التوالي الآلات المعروضة فوق الرفوف. بدا منزعجاً من الصوت النشاز المنبعث منها بينما أنامله الرشيقة تداعب أوتارها بعصبية، فيعيدها إلى مكانها بعد لحظات. عندما جاء دوري، كانت عيناه الجميلتان قد غشاهما حزنٌ شعرتُ معه بالتعاطف، فرأفتُ لحاله ووجدتُني أساير إيقاعه. لا أنكر إحساسي بدفء آسر لما احتضنني، وقشعريرة لذيذة سَرت في أوصالي حين امتدت يده ولامست عنقي لإمساك الوتد وضبط شدته. وما هي إلا هنيهات حتى علت المكان موسيقى متناغمة أطربت أذنيه، ولم يدرك أني أنا من كنتُ أهز أوتاري، لا أناملُه المرتبكة… كيف أشرح له الآن، أني فعلتُ ما فعلتُ فقط لأرفع معنوياته وأرجع إليه الثقة في نفسه؟!
أعود للعزف في محاولة لإفهامه أن الأمر ليس مجرد حركات يتعلمها ويتدرب عليها حتى الإتقان؛ فما بين الموسيقي وآلته علاقة وجدانية تزداد متانة مع مرور الزمن. علاقة حوار وصداقة وعشق. يفشي إليها من الأسرار ما لا يفشيه لغيرها من الكائنات، وهي تتجاوب معه وتمنحه متعة شاسعة. أنغامها بلسمُه، هي ملاذه وأفضل أنيس. يعطيها كل ما لديه وترد له بالمثل، في تجدد مستمر. يلتحم وينصهر معها، فيصيران كياناً واحداً.
ربما وصله قصدي لكنه لم يفقه جوهره، إذ أخذ يتساءل كيف يكتفي بآلة واحدة، مع احتمال تعطُّلِها في أي لحظة. الموسيقي الحقيقي، في اعتقادي، يتألم إذا أصيبت آلته بعطب أو كسر كما لو تعرض هو للأذى؛ يحيطها بالرعاية ليحفظها من العطب؛ وفي حال تعطلت، يتولى إصلاحها… أما الفتى الذي أمامي، فلا صبر له على الإصلاح، يريد أن تكون آلته جاهزة للطرب في كل حين… ربما عاش حادثاً شنيعاً، في صغره، جعله بهذه الهشاشة وأفقده الأمان، حتى أمسى يظن أنه، بامتلاكه للعديد من الآلات، يمكنه السيطرة والتحكم في الأمور؛ لكنه يخفي في داخله شعوراً بالخوف والقلق، ومعاناةً من الفقد والحرمان.
أراه يحرك يده كأنه يزيح شبح ذكرى أليمة، ويدعوني لترك الجدال والاستمتاع بسهرتنا بينما تمتد ذراعاه نحوي، فأتراجع إلى الخلف رافضةً، رغم ادعائه اشتياقه إليَّ، وأُصابُ بالتقزز إثر جملته الأخيرة: “ألا يكفيكِ أني دائماً أعود إليكِ؟!”.
أجيبه بِلحن صارخ يحثُّه على الابتعاد ما دام لا يحب سوى نفسه، فينهض من مكانه محاولاً احتضاني، لكني أبقى متصلبة بين ذراعيه. يناشدني متوسلاً: “هيا أيتها القيثارة العنيدة، استرخي قليلاً، لا يمكنني العزف على أوتاركِ المعدنية وهي مشدودة بهذا الشكل، توشك جرحي من حدتها!”.
أزداد تصلباً، ويزداد إصراراً على تطويعي، وأنا أقاومه حتى يشارف التمكن مني، لكني أنتفض بقوة وأفلت من قبضته. أشعر بألم فظيع وأسمعه يتأوه من الوجع. ألتفت خلفي لأرى بقايا أوتاري الممزقة قد علِقت بيده، وذبحت أصابعه التي تدلت كصريع منهزم، مضرجةً بالدماء، تكاد لا تربطها بكفِّه سوى طبقة رقيقة من الجلد!