الكل يهرب اليوم، من حياته، من بلده، من محيطه، من ماضيه، إلى ماضيه، الكل يبحث عن أفق آخر وزاوية أخرى. هكذا تبدو حياة الناس في عصرنا المتسارع والسريع، الكل يبحث عن ملاذ في نظره آمن وأفضل، عن حياة أخرى تبدو مثالية ومريحة، أو على الأقل مغايرة للحياة الذي يعيشها.
الكاتب تولستوي كان يهرب من زوجته، والمفكر دوستويفسكي من قارضي المال، أما الفيلسوف نيتشه فكان يهرب إلى عزلته حيث يجد راحته، الكل يهرب من شيء إلى شيء آخر. هروب من الجوع، هروب من القهر، هروب من الاستبداد، أشكال متعددة من الهروب، والنتائج متعددة كذلك، والمصير مختلف.كل منا يهرب حين يختنق، يبحث عن متنفس آخر بعيدا عن البيت أو الشغل أو العائلة، يبحث عن هواء نقي جديد، إنه نوع من الخروج نحو سماء أخرى، من الريف للمدينة ومن الحاضرة نحو الجبال، اتجاهات عديدة تعكس ميول البشر واختلافاتهم ومسارات حياتهم. في الزمن الرقمي، نهرب من واقعنا نحو آفاق متخيلة ومن المآسي نحو الفنون للتعبير عن بعض الأمل المتبقي في بني آدم.
لكن الهروب ليس دوما ناجحا أو موفقا بمفهومه المطلق، قد يكون الهروب جحيما، سيلفيا بلاث كتبت رسالة لطبيبتها النفسية تقول لها بأنها تشعر بحنين كبير لزوجها، إلا أنها تهرب إلى مكتبته لتقرأ ما كتب، لعلها تروح عن نفسها، إلا أنها اكتشفت رسائل زوجا لعشيقته واصفا زوجته بالإخطبوط، فما كان على سيلفيا إلا أن تصاب باليأس والإكتئاب لتنتحر بعد ذلك.
وفي رواية أخرى، تتمرد الصغيرة ميلينا على العادات والتقاليد التي يحاول الدكتور سلسكا فرضها، وتنسحب من قيود والدها وتقرر الهروب مع إرنست بولاك لتتزوجه تاركة كل شيء خلفها، لتتركه ثم تتزوج مرارا، وانتهى بها المطاف في السياسة ومعارضة للحكم النازي لتعتقل وتموت هناك، لكل دوافعه للهروب والمصير يختلف، عاشت هاربة من شيء وتبحث عن شيء، فهل وجدته أم لا؟ هنا النتائج تختلف باختلاف الهدف من الهروب.
في روايته رجال في الشمس، غسان كنفاني حاول تجسيد ثلاث شخصيات هاربة من الواقع الفلسطيني آنذاك، تختنق داخل الخزان في الصحراء العربية، ويتساءل لماذا لم يدقوا الجدران؟ في عالم غلب عليه طابع النزوح والتهجير، هل لا زال بوسعنا أن ندق الجدران أو حسب ماركيز أن ندق الأجراس.
جدران ماذا؟ وأجراس ماذا؟