حين يبحث الكاتب عن روح تشبهه
نيتشه المتعالي الذي مجد القوة وقسا على الإنسان، درف دموعا كثيرة وبحرقة أمام طبيبه الذي أصبح فيما بعد، صديقا له، بعد اتفاق فريد بينهما يقضي أن يعالج كل منهما الآخر عن طريق الكلام وتداعي الأفكار. اتفاق بين طبيب وفيلسوف، الطبيب، يعاني من تعلقه وهوسه بمريضته الشابة بيرثا وهاجسه بالهروب والعيش بعيدا عن زوجته وأولاده ومرضاه وعن حياته التي لم يخترها.
لكن الشابة بحسب وصف نيتشه ما هي إلا وسيلة للهروب من القلق الوجودي لدى الطبيب، من خوفه من الموت والشيخوخة والنسيان، بيرثا هي الشغف والسحر والغموض والهروب من الحياة المعاشة.
أما الفيلسوف فيعاني من الاكتئاب والسوداوية التي قد تؤدي به إلى الانتحار بسبب تخلي الفتاة الروسية عنه .يبكي نيتشه في النهاية لأن المرأة الوحيدة التي حين رآها أحس بأن قالب الثلج الذي يسكن أعماقه قد كُسر، المرأة الوحيدة التي هرب ليحتمي بظلها من شمس الحقيقة الحارقة، لكنها رحلت. نيتشه الذي حبس دموعه لأكثر من أربعين عاما، في النهاية يرضى بقدره ويبقى وحيدا ليكتب بصمة كانت فارقة في الفلسفة الألمانية “هكذا تكلم زرادشت”.
دوستويفسكي كتب لحبيبته ماريا يقول : في الشارع الذي تقيمين فيه هناك تسع نساء أجمل منك ، وسبع نساء أطول منك ، وتسع نساء أقصر منك ، و أخري تحبني أكثر مما تفعلين ، وفي العمل هناك امرأة تبتسم لي دائماً، و أخري تستحثني علي الكلام ، والنادلة في المطعم تضع لي العسل بدلاً من السكر في الشاي …ولكنني أحبك أنتِ.. و بعد زواجه منها كانت ماريا في البيت نعم الزوجة له ، تحملت مرضه و فقره و سفره و غيابه عنها و قاست معه كل أنواع الشقاء.. وهي في فراش الموت قال لها دوستويفسكي : لم أخنكِ حتى في الذاكرة .
رد غسان كنفاني على غادة السمان يوما: ولكنني مُتأكد من شيء واحد على الأقل هو قيمتكِ عندي ، كل ما بداخلي يندفعُ لكِ بشراهَة ، لكنّ مظهري ثابت، فردت عليه ،أحببتُكَ و كأنّكَ آخرُ أحبّتي على وجهِ الأرضِ. أحب محمود درويش ريتا، فكتب لها، كنت سأشتري لك البنفسج هذا الصباح لكن الرفاق كانوا جياعاٌ فاشتريت لهم خبزا، وكتبت لك قصيدة حب: إني أُحبكِ رغمَ أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات، لكني أخشى إذا بعت الجميع تبيعيني فأعود بالخيبات، فما كان إلا ما تمنى وقال لها: ربما لم يكن شيئا مهما بالنسبة إليك يا ريتا ولكنه كان قلبي.
بعد معاشرة الحروف والقلم والأوراق، تبحث دوما عن روح نقية بين خبايا الأفكار، تبحث عن غيمة تحلق بك في أفق بعيد عن البشر، بعد بضع كتب تقرأها، تبدأ بالابتعاد عن الناس، تعشق التدخين والقهوة، والطاولة المنعزلة في المقاهي، تصاحبك نظاراتك وكتبك وتصبح هادئا جدا وتعيش عالمك الخاص.
قد أصاب بالجنون، لكني أشعر بنبض قلبي الزائد، وأنا أحب امرأة مثلك، عاشقة متمردة، تعيش بأجنحة لا تتوقف عن الطيران، وأنا في منتصف العمر، أعشق أنثى لا تتكرر، أحس بأني جثة هامدة في هدا الكون، لا يهمني سوى قربها الذي يغنيني عن ما يحدث حولي. كنت انطوائيا طوال حياتي لكني حين أحببت تكلمت، وصرت أجيد الحديث والكتابة، إنها فضيلة العشق. لا أخاف من الخذلان، لا وقت للتفكير به ولا يحق لأحدنا أن يفكر به، امتزج كل شيء.
فقد قادني القدر إليك، وكم كان جميلا كشمس دافئة بعد ليلة ماطرة وباردة جدا، كم كان لطيفا ببشراه، فماذا تنتظرين؟ أعرف أن حب كاتب مهووس بالحروف ليس سهلا وليس متعة، لكن الأقدار لا تخطأ في منتصف العمر، كل شيء يأتي متأخرا يفقد طعمه إلا حب امرأة، تهت كثيرا لأجدها، ولن أغادرها لأن لا طعم للوجود من غيرك.