مدينتي ترفض ثوب الحداد
فاس التي عشقناها ، أحببنا تفاصيلها ، هواءها ، ماءها ، تضاريسها ، أحياءها وكل الأجزاء فيها ، أزقتها ، أسواقها ، ساحاتها ، منابرها ، قصورها ، رياضاتها ، طباع أهلها . دخلنا فيها ودخلت في دمنا فصارت فصيلتنا واحدة ، نردد فيها نشيد الترحاب والإخاء الأبدي .
فاس واسعة القلب ، قديمة الحضور، عاصمة روحية ثقافية علمية حضارية كانت ، هي الآن مهمشة ، منهوشة ، تئن من رحلة النسيان والأسى والجفاء ، رافضة للموت البطيء ، مستنكرة أن تدفن أبناءها أو يدفنها أبناؤها بالنسيان والتهميش وعدم الرعاية والحفظ وما يستلزم من تطور يوافق هويتها ووهجها ، حتى لا تصبح أثرا بعد حين .
ولدنا وعشنا وترعرعنا ونعيش تحت سمائها ، في صفاء وإخاء وتحضر يسوق نموذجا لكل البلاد ، وها نحن نرى بعيونها ، أنها اليوم ، مرثية عمر جميل ، ونحس أنه كلما زاد إهمالها زدنا فيها حبا وتعلقا ، لأنها مدينة بدولة ولا تستحف هذا الجفاء ، ولأنها كلها مع بعضها دروب حب وكرم ، ولأنها حتى في جدلية الحضور والغياب ، تغفر وتصفح بحب .
لا نستطيع أن نرثيها ، وقد لبسوها ثوب الحداد ، وهي تتأبى الرثاء كما قال الأخ العزيز عبد الحي الرايس. ( أنها تتأبى على الرثاء ) – أي تأبى الرثاء وتتأبى الذل والظلم – ولكن ما نعيشه وما نراه من حال الإهمال والتهميش والجفاء الذي نال منها ، أشعرنا وكأنها غدت ترثي نفسها وترتدي ثوب الحداد مكرهة ، منبهة ، منذرة .
عددت شكواها ، رفعت أناتها ، ملت جفاء من تولى أمرها ، يئست من جحود معظم سكانها ، معظم المهاجرين من أبنائها ، ضاقت درعا من الحسرة لحالها ، صرخت وبكت ، فجفت عبراتها ، سكتت فزادت وحشتها ، تكبدت وصبرت فكساها القنوط ، هي الآن لا تجدد شكوى ولا ترفع دعوى ، لكنها في شموخها متأبية ، وبقلبها الواسع رحبت بالالتفاتة الأخيرة التي جعلتها من بين المدن الكبيرة المقترحة لاحتضان بعض مباريات كأس العالم 2030 وقبلها بعض مباريات كأس إفريقيا 2025 ، رحبت بوعود أن تشملها 10 برامج مشاريع ضخمة من شأنها أن تمسح غبنها وتعيد لمكانتها الاعتبار وتنهض بشأنها وهمم أهلها .
وقفت قبلا تنعي وجودها
وارتدت ثوب الحداد ؟
كساد ، بوار ، ضياع إهمال ، عبوس ، شرود ، أحزان
الطيور فيها جاثمة
الأغصان فيها
كسيرة جريحة
شوارعها نتن
أزقتها عفن
دورها خرب
جداولها أسن
بيوت علمها خرائب
جوامعها ، مساجدها
كم فيها غرائب
كأن اللصوص
فرضوا للصلاة فيها ضرائب
أوكار ماخورها زرائب
فضاءات ترويحها مصائب
تقلب أمواجها غضب وعطب
إنها كانت عجائب
*
كنا في مدينتي إخوة أحبة
لها توددنا وسواعدنا عضد
غاب الوفاء ومات الإخاء
وحيدة تعزف لحن الوفاء
فيها انتحر نضال الشرفاء
هنا موت مناضل ، هناك إحجام عالم
هنا انزواء مثقف ، هناك هجر خبير
هنا ضياع صانع ، هناك كساد تاجر
للمجهول صار منها الهروب
وصف الانتظار أطول مهيب
حال أهلها
تجهم وشدوه
حسرة وتضور
*
لصقت بها سوء الأخبار
دافعت عنها نفضت الغبار
مدينتي تنعي نفسها ؟ إنذار
وحيدة تثقلها الهموم ؟ إنذار
تناسيها ، تحجيم مجدها ؟ إنذار
أن تغيبها المآسي دوما ؟ إنذار
تموت كل يوم ألف ميتة ؟ إنذار
*
طلبت الإله أن يمنحنا القوة ..
كي نزيح عنها بعض أثقالها
كي نؤنس شكوى وحدتها
تقوى فيها سواعد أشرافها *( 1 )
تعيد لها مجدها . بسمتها . إشعاعها
يا إلهي لين قلوبا ترد اعتبارا لها
وها قد لاح في الأفق كأس العالم
فرحبت بالعناية ، وإنها أهل لها
فاس لن يخبو لها نور
شعاع آمل البلاد ، في نورها
هذا أوان رفع الحداد عنها ؟
ستكون في الموعد
ستتثبت جدارتها
* ( 1 ) ليس المقصود هنا أشراف النسب فقط بل كل من يتمتع بأخلاق ووفاء وإخلاص