الكلمة الشعرية والسياسية طلقتان ضروريتان في معركة غزة
غزة لوحة بانورامية شعرية تستنهض أساطير الحياة: “الفينيق وتموز” ورموز مقاومة الشر اسطوريا وواقعيا: “الخضر، وحمزة بن عبد المطلب”
قبل أن أتحدث عن هذا العمل النوعي الذي أرسله لي صديقي الشاعر أيمن أبو الشعر الذي يتواصل معي بشكل شبه يومي للحديث عن غزة ومصابها، أود أن أشير إلى أنه كان ملتهباً هذا اليوم وهو يتساءل أيعقل أنه لا يوجد سبيل لوقف قتل النساء والأطفال بهذه الآلة الجهنمية الحاقدة، هل يعقل أن يكون العالم، كل العالم وما نسميه إنسانيا المجتمع الدولي عاجزا عن إيقاف هذه المجزرة. شعرت من نبرات صوته أنه يغص من الألم وتكاد كلماته أن تتبلل بدموع الروح لاستمرار هذا الذبح على مرأى من العالم لدرجة أنني تساءلت بحرقة أيضا وكأنه نقل لي عدوى تهدج الصوت، بالفعل ما قيمة ما أكتبه كمحلل سياسي إن لم نستطع إيقاف هذه المأساة، فأعاد توازن صوته وقال لي بحزم: لا يا صديقي ما تكتبه ضروري جدا خاصة أنه موجه للناس عموما وللسياسيين وأصحاب القرار على وجه الخصوص، الكلمة الشعرية والسياسية طلقتان ضروريتان في هذه المعركة، ولكل منا دوره في هذا الطريق… وتذكرت حديثا كان قد نقله لي الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو أنقله هنا لكم، إذ يبدو أن أيمن بنتاجاته لا يكتفي بأنه يثير مشاعرنا حتى الحد الأقصى، بل ويستنهض العديد من الذكريات الهامة.
أكاد أن أقول أن أيمن أبو الشعر هو ابن غزة لمدى تعاطفه الوجداني مع أحداثها، حتى أن صديقه الشاعر الكبير معين بسيسو نقل لي ببهجة أنه حين زار أيمن أبو الشعر في بيته في دمشق مع الناقد محي الدين صبحي، قال له كنا نظن أنك فلسطيني- كذلك كان يظن محمود درويش وسميح القاسم- فأجابه كما أجابهما: “أنا شامي المولد فلسطيني الهوى”، وأضاف موجها كلامه لمعين بسيسو: ” وقلبي من غزة”، ليكرس الود والتفاعل النضالي لأنه يعرف أن معين بسيسو من غزة، وهي عموما لفتة نبيهة تسجل لأيمن أبو الشعر. ولكن هناك أمران أحب أن أوضحهما، الأول أنني سأسعى من خلال صداقتي مع أيمن أبو الشعر أن أقدم من نتاجاته كل ما له علاقة بقضايانا المشتركة بين حين وآخر، والثاني أنني أتمنى على الكتاب والأدباء والنقاد والباحثين والصحفيين أن يدرسوا مثل هذه الأعمال النوعية، كقصيدة غزة هذه، ويوضحوا بعض جوانبها الفنية لتتكرس في عمق الذائقة الجمالية الجماهيرية، فأنا لست مختصا بالشؤون الشعرية والأدبية، وأعلق كمتذوق ومتابع، وكسياسي كما هو الحال في هذه السطور القادمة. ولكن من المفيد جدا أن تتوحد نتاجات الشاعر والسياسي وكأنما يدفعان معا كتفا بكتف عربة الصمود لتمضي إلى الأمام… والآن لأتحدث قليلا عن القصيدة
“غزة ” قصيدة مذهلة مضمونا وفنيا لشاعر الطوفان أيمن أبو الشعر، هذه القصيدة وهي موجودة في ديوانه “سلاما مواعيد قلبي دمشق” وتتحدث عن تلاحق المآسي التي تتعرض لها غزة، سبق أن ألقاها الشاعر في عدد من أمسياته لكنه اختارها اليوم وأداها بصوته، وبثها على قناته في تيليغرام واليوتيوب لتصل إلى الآخرين، ويتناقلونها الآن كما حدث مع أنشودة الحصار، موقنا أن الفيسبوك سيحاصرها، ويقلص عدد المشاهدين كالعادة حين يتناول القضية الفلسطينية، يبدو لي أن أيمن أبو الشعر لم يختر أسطورة الفينيق -أو الفينيكس -العنقاء عند العرب- اعتباطا كرمز للشعب الفلسطيني، فهذا الطائر الأسطوري حين يموت يحترق، وسرعان ما ينبعث من رماده، وقد استفتح قصيدته بتلك اللحظة التي يجدد الفينيق حياته بشرارة تبرق من بين الرماد، ويشدد على أنه الفينيق- الشعب الفلسطيني الذي يتوقد تعطشا للنصر، “ذاك المطلق الآتي” ولماذا هذا التأكيد والثقة؟ لأن الثكالى في طريق نضال الشعب الفلسطيني لا تتفجع رغم الألم الشديد، بل تودع شهداءها بالزغاريد، فتنبعث النجوم في ليل غزة رمزا للسمو والشموخ والتفاؤل بآن معا. وكما ينهض الفينيق من رماده تنهض غزة من تحت الدمار والقصف لأنها معزوفة التاريخ، كانت قبل الاحتلال في عمق التاريخ وستتألق بعد رحيله، وهي لا تنهض وحسب، بل تنهض سعيدة فرحة تشبه الألحان التي يغنيها الرعاة والفلاحين إبان الحصاد منذ السومريين، ولهذا يستنهض الشاعر اسطورة تموز “دموزي”، والذي يعتبر إله الخصب حيث تنبعث الحياة في الأرض حين يعود إليها بعد موت الشتاء والصقيع، إن الشاعر مؤمن بانتصار الحياة ” الفلسطينيين” على الموت “الصهاينة”، ولهذا فإن العطر يتحول وساما لهذه الحياة، ويصك العطر نقشه فيه، هل هناك كناية أقوى للتعبير عن الإيمان بالنصر والتفاؤل؟ ثم ينعطف ليشرح أنه يتحدث عن الواقع مستفيدا من الأساطير، فهذا البرق الذي أحيا الفينيق، ثم استرشاده بتموز لم يأت هكذا مجانا، بل كتعبير عن أن تموز انبثق عبر نضال مرير حقيقي يشبه الأسطورة، لهذا يستنهض اسطورة ثالثة مستعينا هذه المرة بسيدنا الخضر وهو عند المسيحيين مارجرجس الذي يقتل التنين وهو بالمناسبة وحش كان يظهر من البحر المتوسط ليفتك بالبشر حتى اضطروا لتقديم فتاة فدية، ويُتبع هذا المشهد بأحد أشهر المقاتلين ضد “الكفار”، وهو صائد الأسود حمزة بن عبد المطلب، ليمزج الأسطورة بالواقع، لأن العدوان الساحق الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني واقعي جهنمي والصمود الذي يبديه هذا الشعب اسطوري وواقعي بأن معا وكل ذلك على مرأى من التاريخ.
ثم يرسم لوحة تفاعلية مدهشة موضحا أن طريق النضال واحد من أرزة لبنان حتى جنوب الناصرة، أي كل فلسطين، إنه يستنهض عبر هذه اللوحة الذاكرة الدامية ليفضح الصامتين والمتآمرين، والذين باعوا ضميرهم، وكمفارقة بينهم وبين الأشقاء الحقيقين يُظهر كيف تنادى أصحاب القضية المشتركة في الوقت المناسب كالطبيب الجرّاح، ليضمدوا الجِراح، غرزة في إثر غرزة، ويشبه الذين فضلوا الصمت أمام هذه المشاهد الدموية بجلد التماسيح يثلم حتى الرماح إن حاولت اختراقه، وشبه الأنذال الذين تعودوا مسح الجوخ والتزلف للأعداء بلاعقي النعال الذين فقدت ألسنتهم النطق…
رغم هذه اللوحة المتشعبة الأليمة والمريرة كانت خيوط الضياء هي التي تشكل لحمتها الرئيسية، وتنبثق من بين سطورها، فمقابل لوحات الألم والنزيف والمعاناة تنهض أربعة رموز إيجابية اثنان اسطوريان لانتصار الحياة الفينيق وتموز واثنان مقاتلان واحد اسطوري هو الخضر، والآخر واقعي هو حمزة ولعمري أن اختيار الشاعر لحمزة لم يكن عفويا فحمزة صياد الأسود هو رمز للفدائيين الفلسطينيين صيادي دبابات الميركافا.
ولهذا يختتم الشاعر قصيدته بهذه الصورة المذهلة حقا، والتي أعتقد أنه لم يسبقه أحد إليها، وهي نظرة الأطفال المتألمة الحزينة الجريحة في غزة، تلك التي هزت قلوب الكون عبر حملات التعاطف والتظاهر في كل مكان، وأن هذا الوميض في أحداق الطفلة “غزة” لم يكن خارجيا ولم يكن نتيجة انعكاس أضواء شمس أو قمر أو كهرباء، بل كان الضوء من جوهرها، كالهالة التي ترتسم فوق رؤوس القديسين، بل كالفوسوفور الذي قصفت به لكنها تقمصته في نظراتها المتفائلة لأن ضوءه من ذاته وبالتالي يكرس ميلاد الطهر في أحداق غزة.