أمنة برواضي في حوار”مع الناقد”(أسئلة الباحث العربي)
الجزء الثاني الحلقة 19 مع الدكتور محمد أحمد أنقار
أولا أرحب بكم دكتور ، وأشكركم على التفضل بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي.
من هو محمد أحمد أنقار؟
- مرحبا بالأستاذة المبدعة أمينة برواضي، وأشكرك جزيل الشكر على هذا الحوار، وأرجو لك مزيدا من التوفيق والسداد في مسيرك الإبداعي والثقافي.
حقيقة من طبعي أني لا أحبذ الحديث عن نفسي؛ لكن لكل مقام مقال، كما يقال.
محمد أحمد أنقار، أستاذ باحث، من مواليد مدينة تطوان، في حارة “باريو مالقة” الشهيرة في الضاحية الغربية للمدينة. نشأت في أسرة تهوى القراءة والأدب والثقافة إلى درجة الهوس؛ فوالدي، بارك الله في عمره، كان أستاذا للغة العربية، شغوفا بالقراءة ومحبا للعلم، زرع في نفوسنا ذلك الشغف وتلك المحبة، فتفتحت عيناي على مكتبته التي كانت ولا تزال تضم أصنافا من الكتب والمجلات، فأغتنم الفرص وأتحيّنها لقراءة كتاب أو الاطلاع على مجلة؛ فمن الكتب: روايات المنفلوطي وطه حسين ونجيب محفوظ وجبران خليل جبران، وقصص مصطفى يعلى.
ومن المجلات: مجلة “العربي” الكويتية.
أما والدتي، حفظها الله، كانت لي خير معين في مراحل دراستي الابتدائية والإعدادية بفضل تكوينها الأدبي، فكثيرا ما كنت أستعين بمعارفها وببلاغة أسلوبها من أجل كتابة موضوع إنشائي الذي يكلفنا به أستاذ اللغة العربية.
أما عمي الأديب محمد أنقار، رحمه الله، فمنه اكتسبت أدبا، وعلى يديه تعلمت أصول قراءة النصوص واكتناه أسرارها وأصول الكتابة النقدية الرصينة.
تابعت دراستي بمراحلها؛ الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية بتطوان. حصلت على دبلوم الدراسات العليا المعمقة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، وحدة التكوين والبحث: الأدب المغربي على عهد الدولة العلوية؛ دراسة في المكونات والأصناف، وأنجزت بحثا عن القصة القصيرة سنة 2005م بإشراف من أستاذي الدكتور محمد مفتاح رحمه الله. ثم نلت الدكتوراه من الكلية نفسها، وحدة الخطاب الصوفي في الأدب العربي الحديث والمعاصر سنة 2011م، ببحث جامعي عن المنامات الصوفية بإشراف من أستاذي الدكتور عبد الله المرابط الترغي رحمه الله. أصدرت كتابين: “بلاغة التصوير في قصص مصطفى يعلى” سنة 2016م، وكتاب: “المنامات الصوفية. التجنيس والتصوير” سنة 2020م. بالإضافة إلى كتب جماعية مشاركة وتنسيقا؛ منها: “مرائي الشيخ محمد المعطي الشرقاوي. التجنيس والبلاغة”. ضمن الكتاب الجماعي: في تحقيق النص التراثي، منشورات المركز المغربي للبحث العلمي وتحقيق التراث ومكتبة سلمى الثقافية، تطوان، 2017م. “نحو بلاغة القيم في قصة “حلم أرجوحة”. ضمن الكتاب الجماعي: إشكالات تنزيل القيم في المدرسة المغربية، المركز الدولي للأبحاث والدراسات العربية، الدار البيضاء، 2018م. “منامات الوهراني بين التجنيس والتلقي”. ضمن الكتاب الجماعي: النص وحدود التأويل. أعمال الندوة الدولية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس/مكناس. عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى 2019م. “الأحلام في الثقافة العربية: من التعبير إلى تحليل الخطاب”. ضمن الكتاب الجماعي: اللسانيات ومناهج النقد الأدبي، عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى 2020م. “يا مسافر وحدك” لمحمد أنقار أو في تأويل التيه. ضمن الكتاب الجماعي: محمد أنقار، مؤوِّلا ومؤوَّلا. مختبر التأويليات، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، ومنشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى 2020م. “بلاغة المحكي الذاتي”. ضمن الكتاب الجماعي: الآفاق التحليلية لقراءة الخطاب. دراسات تطبيقية. المركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، الناظور، الطبعة الأولى، 2020م. “السرد والبلاغة في المنامات الصوفية”. ضمن الكتاب الجماعي: بلاغة الخطاب الصوفي، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، مراكش، الطبعة الأولى 2021م. “دراسات في تحليل الخطاب”. إعداد وتنسيق وتقديم، منشورات أبعاد، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2021م.
“مصطفى يعلى أديب ليس أيقونة”، تقديم وتنسيق، منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2023م.
كما نشرت دراسات نقدية في مجلات محكمة: مجلة “فصول” ومجلة الفنون الشعبية” المصريتان، ومجلة “مدارات في اللغة والأدب” ومجلة “فصل الخطاب” الجزائريتان. ومجلة أفكار وفكر العربية المغربيتان. وشاركت في ندوات داخل المغرب وخارجه: في كلية الآداب ابن مسيك بالدار البيضاء، وفي كلية الآداب بتطوان، وفي المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بمكناس، وفي كلية الآداب والفنون والإنسانيات بتونس، وفي كلية الآداب جامعة المنصورة بمصر، وغيرها من الملتقيات في مدن مغربية أخرى. كما أني عضو في المركز المغربي للبحث العلمي وتحقيق التراث، وكاتب عام للمركز الدولي للأبحاث والدراسات العربية بالدار البيضاء، وعضو هيئة تحرير مجلة فكر العربية، وعضو الهيئة الاستشارية لمجلة الصقيلة في النقد والإبداع، وعضو مؤسس لرابطة أديبات وأدباء شمال المغرب بتطوان.
في ظل تزايد عدد الإصدارات الأدبية، كيف ترى مستقبل النقد في الوطن العربي؟
- حقيقة لا يمكن إنكارها هي أن عدد الدراسات النقدية تضاعف عشرات المرات، وأن النشر أضحى أكثر يسرا مما كان عليه سابقا، بالإضافة إلى أن الكتاب يصل إلى مختلف ربوع الوطن العربي مشرقه ومغربه عبر معارض دولية تحتفي بالكتاب والنشر والثقافة بشكل عام طوال السنة. كل هذه الأمور حسنة ومحمودة. بيد أنه لا بد، بداية، أن نفصل بين نوعين من الدراسات النقدية: أولهما تلك الدراسات التي تراهن على الجدة وتحاول أن تجيب عن مختلف الأسئلة التي تشغل بال الإنسان المعاصر في ظل تزايد الأزمات واستفحالها. بمعنى أن النقد ينبغي ألا يكون مفصولا أو معزولا عن حياة الإنسان، بل هو جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني وكينونته ومصيره. نحن اليوم نعيش حقبة زمنية تشهد انهيار عالم قديم بقيمه وحضارته وتمثلاته وأفكاره، في مقابل ذلك نشهد أيضا نشوء عالم جديد، ربما تشكلت بعض معالمه بعد الأزمة الصحية العالمية منذ 2020م، وما تلاها من حروب وصراعات وأزمات. فقضايا كثيرة تشغل الإنسان من قبيل: الحرب والسلم والكراهية والحب والعنف والتسامح ورفض الآخر أو القبول به وغيرها من الظواهر الاجتماعية والسياسية والفكرية، على الناقد أن يكشف عنها بطريقة أو بأخرى، لكن برؤية نقدية فاحصة للأعمال الأدبية، وبمنهجية دقيقة علمية وأكاديمية، يتم فيها مراعاة أصول الكتابة النقدية. صحيح أن هذا النوع من النقد هو موجه بالأساس إلى نخبة القراء من المتخصصين والأكاديميين، إلا أن النقاد مطالبون بتطوير آليات انفتاحهم على القارئ، وهذا أمر ليس هينا. أما النوع الثاني من الدراسات النقدية والتي تغزو الساحة الثقافية، يمكن وصفه بدراسات كتبت على عجل، تنساق وراء أغراض غير علمية. وللأسف، نجد بعض دور النشر تفتح أبوابها فتنشر الكتب دون فحص أو تحكيم أو مراجعة، ودون مراعاة الشروط العلمية للكتابة، وهي دور نشر تسعى إلى تحقيق الأرباح المادية، لا تكترث إلى ما هو علمي. وقد وصفتُ هذا النوع من النقد بالتسرع لأن أصحابه من الشباب يرغبون في حرق المراحل وتحقيق الشهرة والانتشار والرهان على البريق الإعلامي دون روية أو تريث، ودون الاستناد إلى ثوابت النقد العلمي الدقيق. ومن المؤكد أن النوع الثاني لا مستقبل له، هو شبيه بالفقاعات أو زبد البحر سرعان ما ينسى ويطويه الزمن، أما ما يبقى هو الذي ينفع الناس. هنا، أستحضر شهادة قالها المرحوم د. محمد أنقار في حق صديق عمره د. مصطفى يعلى إبان تكريمه سنة 2010 بالقنيطرة بأنه ليس أيقونة. يقول: “يعلى ليس من صنف أولئك المثقفين الذين تكاثروا في زمننا كالفقاعات، وغدا الناس يمتدحونهم كما لو كانوا أيقونات تعبد. أولئك الذين يلهثون وراء الشهرة والمصالح المادية والبريق الكاذب”. ويضيف الراحل د. أنقار: “عرفتُ يعلى كاتبا للقصة القصيرة بامتياز مثلما عرفته رجلا يرفض الشهرة والظهور المجاني بمناسبة أو من دون مناسبة. ولعل هذه واحدة من أبرز سماته في ممارساته الثقافية والإبداعية. هو رجل يعشق الجلسة الفريدة من أجل القراءة والتأمل. يزورُّ عن التجمعات والتظاهرات الكثيفة، ولا يجد ذاته في المديح الزائف والإطراء الكاذب. كأنه وطد نفسه منذ البدء على أداء الرسالة في صمت بعيدا عن الأضواء. وكم ناجيت نفسي قائلا إن مصطفى يعلى ليس أيقونة تعبد في حقل الثقافة المغربية المعاصرة. بل رجل الصراحة والمثابرة والعمل في الظل”. فأن يجمع الناقد أو الأديب بين سمو الأخلاق وسعة العلم في زمننا، هذا لعمري هو الذي يضمن الاستمرارية والبقاء.
ما المواصفات التي يجب أن تتوفر في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقاد؟ وكيف يكون الناقد حياديا في تعامله مع العمل الإبداعي؟
- نعلم أن النص الجيد الخاضع لشروط الكتابة الأصيلة هو الذي يؤثر في المتلقي أو يحدث أثرا في القارئ، وأن الكاتب حينما يكتب إنما يوجه خطابه إلى قارئ ما من المفترض أن يتواصل مع ما يقرأ. ولتحقيق تواصل فعال يبحث القارئ في الكتاب عن ذاته وكينونته وانشغالاته، أي القواسم الإنسانية الكونية المشتركة. وهنا، لا بد أن يتوفر في النص المنشود، إلى جانب حبكته في المبنى والمعنى، شرط الصدق، ليس بمعناه الأخلاقي المحض بل بمعنى قدرة الأديب على نقل تجربته الإنسانية وتصويرها إبداعيا. لهذا، فالناقد يبحث باستمرار، بل وينقب، عن النصوص الإبداعية الحقيقية والأصيلة والخالدة عبر التاريخ، ومثل هاته النصوص أسئلتها دائمة ومتجددة، كل قارئ قد يجد ذاته فيها. وخير مثال عن ذلك حكايات ألف ليلة وليلة، فهذا الإبداع التراثي والكوني والساحر لا يزال يلهم المبدعين والأدباء والفنانين والموسيقيين؛ فنجد صدى الليالي في الرواية والمسرح والسينما وغيرها من أنماط الإبداع الإنساني العالمي الحديث. إذن، فالنص الخالد هو المبتدأ والمنتهى، لكن ليس بالمنظور البنيوي الضيق أو بمقولاته التي حصرت النصوص في بنيتها الداخلية، وبالتالي قيدت النص وجردته مما هو إنساني، بل المقصود تلك النصوص الإبداعية التي من خلالها ينسج الناقد معها علاقة حوار وتفاهم لكن بوعي جمالي وثقافي يستمد من الحياة نفسها. بتعبير آخر، إن الناقد الذي يجعل النصوص في خدمة المناهج إنما يقوم بعملية وأد مسبق لها، إذ يخضعها لقوالب سالفة وجاهزة، فنجد تكرارا لمقولات نقدية بعينها رغم اختلاف النصوص، كما أن النتائج المستخلصة تكاد تكون محسوما في أمرها. لهذا، فالناقد الموضوعي هو الذي يتعامل مع النص كأنه ذات إنسانية ينبض بالحياة وله بالغ الأثر في النفس، وأن القارئ، لا محالة، سيتأثر ويتفاعل. هنا، يمكن الحديث عن دينامية النصوص الإبداعية التي لا تموت، بل تقرأ في كل وقت وحين. فالكاتب المبدع هو القادر على تضليل القارئ بل والاستحواذ عليه والتحليق به في سموات التخييل التي لا حدود لها. أبدع فيودور دوستويفسكي رواياته في القرن التاسع عشر؛ الجريمة والعقاب والإخوة كرامازوف والشياطين والأبله وغيرها، فأضحت من روائع الإبداع الإنساني الخالد. فما السر في ذلك يا ترى؟ مما لا شك فيه، أن الأمر يتعلق بقدرة هذا المبدع الروسي في استكناه النفس البشرية والكشف عن أمراضها وعللها دون مواربة سوى مواربة التخييل الفني. والأمر نفسه نلفيه عند ليو تولستوي وأنطوان تشيخوف وفرانز كافكا وإرنيست هيمنغواي وغارسيا ماركيز وباولو كويلهو ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف والطيب صالح وغيرهم.
دكتور أدرج كتابكم “المنامات الصوفية. التجنيس والتصوير. دراسة وتحقيق كتاب “المرائي” للشيخ محمد المعطي الشرقاوي” ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب الدورة الثامنة عشرة (2023/2024) فرع تحقيق المخطوطات. في البداية، نهنئكم، ونرجو لكم التوفيق. فلأول مرة منذ إحداث جائزة الشيخ زايد للكتاب أضيف فرع جديد خاص بتحقيق المخطوطات. فما أهمية تحقيق المخطوطات في عصر الذكاء الصناعي؟
- شكرا لك على التهنئة. حقيقة، أنا سعيد جدا كون كتابي “دراسة وتحقيق مرائي الشيخ محمد المعطي الشرقاوي” وصل إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، وسعيد أيضا أن حقلا معرفيا حظي أخيرا بالاهتمام وخُصصت له جائزة قيمة هو حقل تحقيق المخطوطات. يعرف علم تحقيق المخطوطات بالكوديكولوجيا، من خلاله يتم دراسة الكتب المخطوطة يدويا والمكتوبة على الرق والجلد أو الورق. ودراسة المخطوطات ينظر إليها من شقين شق مادي يهتم بصناعة الكتاب المخطوط من حيث حجمه ونوع حبره وطريقة تجليده وطبيعة الورق أو الجلد وغيرها من المعطيات المرتبطة بالشكل الخارجي للمخطوط. أما الشق الثاني فينصب أساسا على المحتوى والمضمون مع ما يقتضي من تخريج المتن وضبطه بالشكل التام ومقارنته بالنسخ الأخرى، وما يتطلب من جهود علمية تتمثل في البحث والاستقصاء برد النقول إلى أصولها وتدقيق معطياتها وإيعاز الآيات والأحاديث إلى مصادرها وتخريج الأبيات الشعرية والتحقق من نسبة قائلها وترجمة الأعلام البشرية والجغرافيا، ثم وضع فهارس دقيقة لما سبق تسعف الباحث في الكتاب وتعينه. طبعا، مجال دراسة المخطوط وتحقيقه، من وجهة نظري، لا يقف عند حدود ما سبق ذكره؛ بل لا بد من توظيف مختلف المناهج النقدية الحديثة قصد تحليل النصوص ودراستها نقديا. وهذا ما حاولت استثماره والعمل به إبان إعدادي لأطروحة الدكتوراه، وقد أرشدني إلى ذلك أستاذي الدكتور محمد أنقار، رحمه الله، بأن النصوص، حتى ولو كانت مخطوطة وتراثية، بإمكاننا دراستها دراسة علمية حديثة، بتحليل مكوناتها وكشف جمالياتها الفنية والبلاغية واكتناه طاقاتها التخييلية، من خلال الانفتاح على مختلف المناهج النقدية الحديثة. فموضوع أطروحتي لم يقتصر على تحقيق كتاب المرائي للشيخ محمد المعطي الشرقاوي تحقيقا علميا فحسب؛ بل امتد للإجابة عن إشكالين نقديين هما التجنيس والتصوير. فقد أردت الإجابة عن سؤال نقدي هو: ما الذي يجعل نصوص المرائي والمنامات تندرج ضمن عوالم السرد؟ يحيل هذا السؤال إلى إشكال نقدي عويص ليس من السهل الإجابة الحاسمة عنه، هو إشكال تجنيس نصوص المنامات وتصنيفها ضمن نوع أدبي ما، وما يقتضي من البحث عن المكونات والسمات سواء في الشكل أو المضمون. والسؤال الآخر لا يقل صعوبة يتمثل في البحث عن الإمكانات الجمالية والفنية والبلاغية التي تختزنها نصوص المرائي والمنامات. وبالعودة إلى سؤالك عن أهمية تحقيق المخطوطات، فمن البدهي القول بأن التحقيق له أهميته البالغة، فقد شبهه أستاذنا الدكتور مصطفى يعلى بعلم البيبلوغرافيا، أي البنية التحتية للبحث العلمي والدراسة النقدية؛ لأنه لا بحث ولا نقد ولا دراسة للتراث دون توفر المتون الموثوق بتحقيقها تحقيقا علميا وأكاديميا. والمحقق أثناء الاشتغال على نص ما يحتاج إلى عُدّة معرفية ومنهجية؛ من قبيل سعة الاطلاع، والقدرة على البحث الدقيق والاستقصاء في مختلف الكتب والمصادر والمراجع والموسوعات والمعاجم. لهذا، فالتحقيق شديد الصلة بعلوم أخرى مثل: الأدب واللغة والبلاغة والتاريخ والجغرافيا والفقه والحديث والطب والفلسفة والفكر وغيرها. فضلا عن ذلك كله، لابد من الباحث المحقق امتلاك معرفة بأصول البحث العلمي وكفايات منهجية من مقارنة ووصف وتحليل وتفسير وتركيب وتفكيك وغيرها من قدرات أخرى لغوية وبلاغية. ومن ثمَّ، فإن كل من يستهين بالتحقيق ويقلل من شأنه، أظن عليه أن يعيد النظر في أفكاره ومسلماته. ويكفي دليلا على أهمية التحقيق أن عددا من المستشرقين في مطلع القرن العشرين وما تلاها من سنوات كان لهم الفضل في إحياء تراثنا العربي والإسلامي، بعد أن طواه النسيان والإهمال، فعملوا على تحقيق أمهات الكتب؛ من ذلك إسهامات المستشرق الفرنسي الشهير لويس ماسينيون Louis Massignon فقد حقق كتاب “الطواسين” للحسين بن منصور الحلاج. كما أسدى المستشرق الألماني كارل بروكلمان Carl Brockelman للتراث العربي الكثير، من ترجمة وتحقيق وجمع وتعليق وفهرسة لعدد من المصنفات العربية؛ منها تحقيقه لرسالة في لحن العامة للكسائي مذيلة بتعليقات وفوائد جمة. كما نجد المستشرق الإنجليزي آرثر جون آربري Arthur John Arberry حقق كتاب “المواقف والمخاطبات” للنفري، وكتاب “الرياضة” للحكيم الترمذي، وقصائد الحافظ الشيرازي ورباعيات الخيام. واعتنى المستشرق الفرنسي غاستون فييت Gaston Wiet بتحقيق عدد من النصوص العربية خاصة التي تتعلق بتاريخ مصر منها: كتاب “المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار” لتقي الدين المقريزي. وقد علق المفكر عبد الرحمن بدوي على هذا التحقيق بقوله: “وقد حقق النص تحقيقا نقديا ممتازا، وترجمه إلى الفرنسية، وعلق عليه تعليقات مستفيضة في غاية الدقة والفائدة. فجاء عمله هذا من أعظم الأعمال في التحقيق والترجمة للكتب العربية”.
والحق أنه لولا علم التحقيق لما تعرفنا على دواوين الشعر العربي القديم ومصنفات الجاحظ والتوحيدي وابن طفيل وابن رشد وابن سينا وابن خلدون والغزالي وابن عربي وغيرهم من العلماء والأدباء في شتى صنوف العلم وأنواعه. ومخطوطات تراثنا العربي والإسلامي منتشرة في عدد من المكتبات والمعاهد والمراكز بعواصم العالم، ولا يزال البحث قائما من أجل الكشف عن ذخائر هذه المخطوطات ونفائسها.
ما تصوركم من أجل نشر التراث المغربي، خاصة المخطوط منه؟ وما السبل التي من خلالها يمكن أن يحظى هذا التراث بالدراسة والنقد العلميين؟
- تصوري من أجل تحقيق المخطوطات تحقيقا علميا دقيقا أنه لا بد من إعادة إحياء وحدات البحث والتكوين الخاصة بتحقيق مخطوطات التراث المغربي داخل الجامعات المغربية، ومدها بكل الإمكانات اللازمة، ومن ضمنها توفير أساتذة أكفاء ومؤهلين معرفيا وعلميا ليقوموا بمهامهم خير قيام؛ لكن برؤية حديثة واستراتيجية علمية دقيقة.. بمعنى، من الضروري وقبل كل شيء الإجابة عن الأسئلة الآتية: عن أي مخطوط نتحدث؟ ما أهميته وإضافاته؟ ما العُدّة العلمية التي بها نحقق المخطوط؟ هل نقتصر على ما هو معتاد ومتعارف عليه، من التعريف بنسخ المخطوط وصاحبه ومقابلة النسخ فيما بينها؟ هل بإمكاننا استثمار مختلف المناهج النقدية الحديثة لدراسة متون المخطوط ونصوصه؟ ما الإضافة التي يمكن أن يضيفها مخطوط تراثي عتيق إلى حياتنا وواقعنا، ونحن نعيش في زمن الذكاء الاصطناعي والعوالم الافتراضية؟ طبعا، هي أسئلة كثيرة وشائكة تفرض نفسها على كل باحث في مجال التحقيق ودراسة التراث. بيد أن الأمر يجب ألا يبقى محصورا داخل الجامعات، بل ينبغي الانفتاح على مختلف المكونات الثقافية التي تهتم بالتراث بشكل عام والمخطوط بشكل خاص. فثمة جهود لأفراد وجماعات تعمل على التعريف بالمخطوطات وتحقيقها والسعي إلى نشرها؛ لكنها تبقى للأسف جهودا فردية ومعزولة في الزمان والمكان، في حاجة إلى الدعم والمتابعة. لأن عددا من المخطوطات المملوكة من قبل الأسر والأفراد أو الموجودة في مكتبات خاصة قد تتعرض للضياع بفعل الإهمال. وفي هذا المقام، تبرز مسؤولية وزارة الثقافة ومؤسساتها وكذا مختبرات البحث العلمي التابعة للجامعات من أجل صيانة تراثنا المخطوط وحمايته والعمل على تصنيفه وفهرسته وتوثيقه ورقمنته ودراسته وتحقيقه ثم نشره. بالإضافة إلى تنظيم ندوات ولقاءات ومؤتمرات عن التراث المخطوط، ودورات تكوينية في أصول التحقيق، والعمل على إصدار مجلات مختصة في تحقيق التراث ودراسته، ونشر الرسائل العلمية والأطاريح الجامعية التي لها ارتباط بتحقيق تراثنا المغربي. وفي هذا الصدد، يجب التنويه بأهمية إحداث جائزة الحسن الثاني للمخطوطات والوثائق سنة 1969م من قبل المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، بهدف التعريف بمخطوطات ووثائق ومستندات وكناشات خطية مغربية أو أندلسية يحتفظ بها أفراد أو أسر، وكذا الكشف عن محتوياتها والعمل على توثيقها ورقمنتها وحفظ نسخ منها في المكتبة الوطنية بالرباط وبخزانة مؤسسة أرشيف المغرب. وقد كشفت الجائزة عن ذخائر نفيسة، من دواوين شعرية مغربية ورحلات ومصنفات أندلسية غميسة ونسخ كاملة وتامة لكتب مثل كتاب “مناهل الصفا”. هذا بالإضافة إلى مخزون ضخم من وثائق ومستندات ومراسلات وأوراق خطية تصنف من النوادر كشفت عنها معارض الجائزة منذ إحداثها إلى الآن، وقد وصلت الجائزة إلى دورتها الثالثة والأربعين خلال هذه السنة (2023)، وتهم الكتب المخطوطة والوثائق المكتوبة باللغة العربية أو الأمازيغية أو بالتعبير الحساني. وتتضمن الجائزة، كما هو معلوم، صنفين: الصنف الأول هو الكتب المخطوطة تشمل المؤلفات والتقاييد والمذكرات الشخصية والكناشات العلمية ومجموعات الفتاوى أو الرسائل ودواوين الأشعار والمجموعات الموسيقية وكنانيش الملحون وسائر ما هو مخطوط، سواء أكان مجرد كتابات في أوراق منفصلة أو مجمعا في دفاتر. والصنف الثاني هي وثائق مخطوطة وتشمل الظهائر السلطانية والرسائل الرسمية أو الشخصية أو الرسوم العدلية والمحاسبات والإجازات العلمية وشهادة الأنساب وغيرها.
أستاذي الفاضل تعكفون، حاليا، على الاشتغال على تحقيق مخطوطات.. ألا يمكن أن تقدم للقارئ نبذة عن هذه الأعمال؟
- فيما يتعلق بالكتب المخطوطة التي أعمل على تحقيقها حاليا، ثمة مشروع علمي طموح أود إنجازه، بإذنه تعالى، بمعية باحثين ينتمون إلى المركز المغربي للبحث العلمي وتحقيق التراث بمدينة تطوان، وبدعم من المركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية التابع للرابطة المحمدية للعلماء، هذا المشروع هو تحقيق كتاب “إضاءة الراموس وإضافة الناموس على إضاءة القاموس” لأبي عبد الله محمد بن الطيب الفاسي، وكان بإشراف أستاذنا الدكتور محمد مفتاح، لكن وافته المنية، رحمه الله، قبل إتمام العمل، فبادر أستاذنا فضيلة الدكتور محمد الحافظ الروسي على متابعة هذا المشروع العلمي والإشراف على إنجازه. وكتاب “إضاءة الراموس” موسوعة علمية ولغوية ومعجمية قل نظيرها في تراثنا المغربي، تم تحقيق قسم من مادة الهمزة من المجلد الأول من قبل عبد السلام الفاسي والتهامي الراجي الهاشمي، وصدر ضمن منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 1983م، وبقيت الأقسام الأخرى من المجلد الأول والمجلدات الثلاثة الأخرى كلها لا تزال مخطوطة، فقرر أستاذنا د. محمد مفتاح، رحمه الله، تحقيق هذا التراث المهم وإخراجه إلى العلن. والعمل، الآن، في طور التدقيق والمراجعة بعد الحصول على نسخ خطية أخرى من إستانبول والمدينة المنورة.
موازاة مع ذلك، أشتغل على تحقيق مخطوط تراثي آخر حصلت عليه من المكتبة الوطنية بباريس، وموضوعه طريف يتعلق بحكايات شعبية تراثية. وحسب بحثي وعلمي، أنها لم تنشر بعد، ولم ترد في نصوص الحكايات المنشورة والمعهودة من قبيل: “ألف ليلة وليلة” أو “مائة ليلة وليلة” أو “الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة”. هي حكايات دون عنوان جامع لها، ومؤلفها مجهول، ويضم الكتاب عشرات من الحكايات، كل حكاية لها عنوان يلخص مضمونها، أحداثها متباينة تتعلق بالملوك والسلاطين والأمراء والتجار والأغنياء والجواري وعامة الناس وفقرائهم. تميل بعض الحكايات إلى الوعظ وأخذ الحكمة، وبعضها الآخر إلى تمجيد القيم الأخلاقية مثل: التسامح والوفاء والصدق والمحبة، أو التنديد بقيم أخرى نقيض لها: الكراهية والغدر والكذب وغيرها. كما نجد بعض الحكايات هي إعادة سرد لوقائع تاريخية لكن من منظور تخييلي. أما شخصيات الحكي فهي واقعية وشعبية؛ إنسانية وحيوانية في بعض الأحيان، قلما نصادف شخصيات ذات طابع خارق من قبيل الجن أو العفاريت.
دكتور، تهتمون نقديا بنصوص سردية تراثية من قبيل المنامات الصوفية وحكايات الأولياء… ألا تصنف هذه النصوص ضمن الأدب الشعبي؛ أي أنها أقل شأنا وأدنى مرتبة مما يعرف بالأدب الرسمي؟
- من جملة ما عانى منه السرد عبر مسيرته التاريخية في الثقافة العربية تفضيل الإبداع الشعري عنه، والاعتراف فحسب بتلك الأنواع السردية القريبة من الشعر والتي ترتوي من مكوناته اللغوية والتخييلية؛ مثل المقامات، ومن ثم صنف الأدب إلى ما هو رفيع؛ خاصة الشعر، يحظى بالقراءة والمتابعة النقدية، وصنف ثان هو أدنى؛ أي النثر. وبنظرة فاحصة عن طبيعة النقد وموضوعاته، وما انشغل به البلاغيون والنقاد القدماء نجد أنه ينصب جله على الشعر وفنونه وقضاياه؛ اللفظ والمعنى والصدق والكذب والطبع والصنعة والسرقات الشعرية والقديم والمحدث وعمود الشعر والمفاضلة والموازنة والبديع. فالشعر بالنسبة إليهم منظوم لأنه ينتظم ويخضع لقواعد الإيقاع واللغة والمعنى، بينما النثر، فمعناه الشتات والفرقة. لذلك، فالذوق العربي لم يستسغه ولم يعترف به إلا في حدود ضيقة؛ بل نجد المفاضلة امتدت إلى الأنواع السردية نفسها، إذ نلفي بعضها حظي بالاهتمام النقدي على حساب أنواع أخرى لا يكاد يلتفت إليها. وتعد المنامات من النصوص التي لم يُعترَفْ بها ولم تدرج ضمن أصناف الإبداع الإنساني، بالرغم من حضورها اللافت في عدد كبير من المصنفات على اختلاف مرجعياتها. وهذا الحضور يمكن تصنيفه إلى نوعين: الأول منامات بوصفها نصوصا سردية مستقلة وقائمة الذات ومفصولة عن غيرها، منها على سبيل المثال: منامات ابن أبي دنيا ومنامات الوهراني ومبشرات ابن عربي ومرائي الحسان لابن أبي جمرة الأندلسي ومرائي الشيخ محمد المعطي الشرقاوي وغيرها. والثاني منامات تتضمنها أخبار وتراجم ومناقب وحكايات وسير؛ بمعنى أن هذا الصنف ليس مستقلا بحيث يرد ضمن نصوص أخرى.
دكتور، هل يمكن أن ترقى تلك النصوص لتشكل في مجموعها نوعا أدبيا قابلا للتحليل والدراسة النقديين؟
- سبق أن أشرت إلى أن من الإشكالات النقدية التي حاولت الإجابة عنها في أطروحتي للدكتوراه تتعلق بمحاولة تجنيس المنامات، من خلال إثارة جملة من الأسئلة لها صلة بالإمكانات البلاغية والأسلوبية والسياقات التداولية لهذا الصنف من الإبداع الإنساني. فقمت باستقصاء الجذور اللغوية والاصطلاحية للفظة المنام وباقي الألفاظ الأخرى التي لها صلة بها من قبيل: الحلم والرؤيا والبشارة. بالإضافة إلى البحث في أدبية المنامات، أي كل الإمكانات الفنية والجمالية التي بها يمكننا أن نصنف نص المنام ضمن الأدب؛ لأن مثل هاته النصوص تتقاطع فيها خطابات شتى تاريخية ودينية وصوفية وفلسفية ونفسية واجتماعية. فتوصلت إلى أن بنية نص المنام تخضع لما يعرف بشروط السرد؛ الراوي والمروي له والمتن الذي يروى. كما أن المنام له وجود ذهني يتمثل في سياق رؤيته أثناء استغراق الإنسان في النوم، ووجود آخر سردي؛ أي يصبح نصا يروى حافلا بطاقات تخييلية وبلغة تميل إلى الإخبار والسرد وبمقاصد متعددة. إلا أن المنام أو الحلم له طبيعة خاصة لابد من استحضارها ومراعاتها، فالحلم تحكمه سياقات أخرى نوعية قد لا تتوفر في أنماط من الخطابات. ولعل أبرز هذه السياقات النوم الذي يعد حالة إنسانية شديدة التعقيد؛ بل إن النوم عادة ما يتم ربطه بالموت نفسه. ومن ثمّ، فإن الحلم يقترن بعوالم المجهول والغيب والغموض. وثمة سياق آخر لا يقل أهمية، إنه الواقع، فما يشاهد في المنام له صلة، بشكل أو بآخر، بما نعيشه في واقعنا من أحداث ووقائع. وللحلم أيضا سياق آخر، هو الزمان؛ إذ يقترن بزمن النوم سواء ليلا أو نهارا، كما تم تحديد أوقات بعينها يعبر فيها المنام ويفسر دون غيرها. بالإضافة إلى ما سبق ذكره، ثمة سياق آخر يميز الحلم عن باقي الخطابات، سياق الشيوع وعدم الاختصاص؛ بمعنى أن كل إنسان يحلم ومن ثم يصبح مرسلا، خلافا للخطابات الأخرى التي يتقيد فيها المرسل بالاختصاص؛ فالأديب والإعلامي والسياسي كلهم ينتسبون إلى خطاب بعينه كل حسب اختصاصه. لهذا، نكون مع نوع من الخطاب متفردا في بنيته وفي مقاصده.
أستاذي الفاضل نشرتم دراسات نقدية عن جنس القصة القصيرة جدا، على سبيل المثال: “المفارقة في القصة القصيرة جدا”، و”مصطفى يعلى مبدعا للقصة القصيرة جدا”، و”بلاغة الإيجاز في أقصيصات مصطفى يعلى”…ما الإشكالات النقدية للقصة القصيرة جدا؟ وكيف ترون مستقبل هذا اللون الأدبي؟
- تثير الأقصيصات أو ما يُصطلح عليه بالقصة القصيرة جداً إشكالات عديدة، ترتبط بتاريخ ظهورها وبنيتها وتجنيسها ومكوناتها وسماتها، بل وبمقاصدها أيضا. كل هذه الإشكالات لم يتم الحسم فيها بعد، بالرغم من الدراسات النقدية والملتقيات والندوات التي واكبت هذا النمط من الإبداع الفتيِّ. وقد انقسم النقاد تجاه القصة القصيرة جدا إلى موقفين؛ أولهما رافض لها ومتوجس منها، وثانيهما متحمس لها ومدافع عنها، كل منهما يعرض حججه ومسوغاته. وربما موقف ثالث أيضاً، يقف بين المنزلتين.
تعرف القصة القصيرة جدا، في شقها النظري، حالات من الفوضى العارمة، بدءاً من تعدد مسمياتها؛ إذ لم تستقر على اسم جامع لمكامن فنيتها وجمالياتها ومقاصدها. فمن مسمياتها المتداولة في النقد: القصة القصيرة جداً، وحكاية قصيرة جداً، ونص قصير جداً، وومضات حكائية، والسرد الوامض، والسرد الخاطف، والسرد الصاعق، والكتابة الشذرية، والشذريات، وتخييل مجهري، ونصيص، وأقصيصات وقصيصات وغيرها. وتمتد تلك الفوضى إلى المكونات البنائية، أو ما يسميها بعض النقاد بالأركان أو العناصر الرئيسة أو المقومات أو المعايير أو السمات أو الخصائص؛ بمعنى كل ما يميز هذا النوع من الإبداع عن الأنواع السردية الأخرى المعهودة. فيلفي القارئ نفسه أمام عدد كبير منها، فيصاب بالحيرة، وتلتبس عليه الأمور؛ إذ يعجز عن التمييز بين ما هو ثابت في القصة القصيرة جداً وبين ما هو متغير فيها. ومما هو متداول في الكتابات التنظيرية للقصة القصيرة جداً، نجد ما يأتي: القصصية والحكائية والسرد والتكثيف والقصر والإيجاز والاختزال والإيماض والإضمار والاقتضاب والتلميح والوحدة والجرأة والمفارقة والتضاد والإدهاش والإيحاء والمجاز والرمز والتلغيز والتناص والشاعرية والشعرية والسخرية والتهكم، وغيرها من المفاهيم والاصطلاحات التي تبين، دون مواربة، التضارب النقدي المصاحب للكتابة الإبداعية للقصة القصيرة جداً. بيد أن القضية الأكثر إثارة هي درجة الاستسهال عند بعض الكتّاب في إبداع هذا النوع الأدبي إلى حدود الخلط بين القصة القصيرة جدا وبين الشذرات الشعرية؛ إذ يعجز القارئ الفصل بينهما، للالتباس الحاصل عند المبدع نفسه. إذ ليس كل نص قصير توفرت فيه بعض مقومات الحكي الموجز والقصير والساخر والمفارق، يمكن وسمه أنه قصة قصيرة جدا. فمما لا شك فيه أن الحجم لا يسعف بالقدر الكافي والمطمئن في تجنيس النصوص.
كلنا نعرف نص “الديناصور” الشهير لأوغوستو مونتيروسو. يقول السارد: “عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك”. صحيح أن هذا النص قصير جدا، وأن عدد كلماته محددة في سبع كلمات لا أكثر، بيد أن جماليات النص وفنيتَه لا تكمن فحسب في شدة قصره بل تكمن أيضا في عمق دلالاته ومقاصده؛ إذ يجد القارئ نفسه حائرا في بحر من المعاني والرموز والإشارات. لذلك، يمكن القول إن القصة القصيرة جدا نوع سردي مراوغ وعصي في إبداعه، كما في نقده وتحليله.
فيما يخص مستقبل هذا النوع الأدبي الفتي، لا يسعنا إلا أن نستبشر خيرا ونتفاءل. فعلى الرغم من الإشكالات التي أشرت إليها، والفوضى العارمة من حيث مسميات القصة القصيرة جدا وتباين مصطلحاتها ومفاهيمها، والاستسهال الحاصل في إبداعها وكتابتها، فإننا نرى أن القصة القصيرة جدا تعرف تطورا في بنيتها وحكائيتها، يقبل عليها ثلة من المبدعين بوعي جمالي وفني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نحن نعيش في عصر يتسم بالسرعة الشديدة، وأن إيقاع الحياة اليومية أضحى شبيها ببرق خاطف. لهذا، فالإبداع نفسه يتجه نحو الإيجاز ويميل إلى الاختزال والاختصار.
دكتور بوصفكم تزاولون مهنة التدريس، كيف ترون مستقبل المدرسة العمومية؟
- لا أحد ينكر أن المدرسة العمومية لها أهمية كبيرة ليس في تكوين الأجيال فحسب بل في مستقبل الأمم والشعوب. فكل الدول التي حققت تنميتها وازدهرت وتطورت أول ما بدأت به هو التعليم، لأنه القاطرة الحقيقية التي من خلاله يمكن أن نحقق التنمية والقوة والنجاح في كل المجالات دون استثناء. والدليل على ذلك يمكن تأمل تجارب في بلدان عديدة من أوروبا وأسيا وإفريقيا؛ فنلندا وسنغافورة وماليزيا، وآخرها رواندا. إن هذا البلد الإفريقي الذي، إلى عهد قريب جدا، كان يعاني من حرب أهلية وتطهير عرقي؛ بيد أنه تمكن، بفضل تضافر جهود أبنائه وصدق نواياهم وإخلاصهم وإرادتهم، من تحقيق نمو اقتصادي يعد الأسرع والأكثر نموا في السنوات القليلة الماضية بفعل الاهتمام بالتعليم. لهذا، فواهمٌ من يتصور أن التعليم قطاع غير منتج، يستهلك فحسب الموارد المالية دون نتيجة تذكر، فهذا قصور في النظر، بل غباء في التفكير. وواقع المدرسة العمومية اليوم بالمغرب يعرف اختلالات وصعوبات عديدة كشفت عنها تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وتقارير منظمات دولية تهتم بالتنمية. وللأسف، تحتل المدرسة المغربية رتبا متدنية من حيث الجودة وامتلاك المتعلمين والمتعلمات للكفايات الأساس ومهارات الحياة. فأين نحن من مجتمع المعرفة والتكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي والبحث العلمي؟ بينما المدرسة العمومية لا تزال تعاني من مشاكل عويصة. وقد وضعت برامج وتصورات متعددة قصد الخروج بالتعليم من النفق المظلم الذي طال أمده، آخر هذه البرامج ما سمي بالرؤية الاستراتيجية للإصلاح التي تمتد إلى 2030م، بشعار “من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”، ويضم البرنامج أربعة فصول وثلاثا وعشرين رافعة. وبنظرة سريعة لمضامين هذه الرؤية، نجد أنها تشمل عددا من الغايات يراد تحقيقها؛ منها: المساواة، وإلزامية التعليم الأولي وتعميمه، وتأمين حق التعليم للأشخاص في وضعية إعاقة، واستدامة التعليم وتأمينه مدى الحياة، وبناء المشروع الشخصي، والتمكن من اللغات وتنويعها والنهوض بالبحث العلمي والتقني والابتكار وترسيخ قيم المواطنة والمسؤولية وغيرها من الشعارات. لكن السؤال الأساس ما السبل الناجعة من أجل تنزيل كل تلك الرافعات الثلاث والعشرين؟ فإذا لم يتم تشخيص واقع الحال بشكل دقيق وملموس وواقعي، وتوفير الموارد المالية والبشرية والاهتمام بها، وقبل كل ذلك التوفر على إرادة حقيقية في الإصلاح؛ فإن هذه الرؤية الاستراتيجية لن تؤتي أكلها، وسيكون مصيرها مثل غيرها من برامج الإصلاح.