أعود من حين لآخر للحديث عن مدينة مراكش التي في القلب والوجدان لإرتباطي الروحي بهذه المدينة التي يعتز المغاربة بتاريخها وحاضرها . وتشدني ذكريات منها الحلو الذي ينعش النفس ، ولم يكن مرها إلا كطيف عابر .
ولقد عشت لفترة مهمة في حياتي ، وهي فترة الشباب ، في درب الحلفاوي المحسوب على حومة باب كدالة . كان من بين جيراننا الطيبين ، وما أكثرهم المرحوم بنسالم الشرايبي الذي أنجب عدة أبناء وأحسن تربيتهم وتعليمهم ، واستطاع بعضهم إن يتسلقوا مراتب رفيعة ضمن النخبة من المبدعين والإداريين ، وفي مقدمتهم المرحوم سعيد الشرايبي الذي طبقت شهرته الآفاق في ميدان الطرب ،مثلما ارتقى شقيق له إلى مرتبة ثقافية مكنته من تأسيس دار للنشر ،. أصدرت عدة مؤلفات .
لم يكن درب الحلفاوي يبعد كثيرا عن قصر وسكنى باشا مراكش الحاج التهامي الكلاوي وعن دار الباشا المقر الإداري الذي كان يمارس بواسطته سلطته المطلقة في مدينة مراكش عاصمة الجنوب ، كما كانت تسمى في ذلك الحين أو البهجة ، كما يحلو لأهلها وسكانها أن ينعثوها بها لما توفره من أسباب البهجة والسرور
كنت أحيانا وأنا من سكان درب الحلفاوي القريب من قصر الستينية ، أصادف الحاج التهامي الكلاوي عندما يهم بمغادرة سكناه وهو واقف بأحد أبواب قصره يمعن النظر في المارة ، كان لباسه متميزا ومتشابهاً في أغلب الأحيان ، كان يرتدي في كل الحالات جلابتين قصيرتين ، ويتمنطق بخنجر رفيع من الفضة ، ويبدو وكأنه معتز بنفسه ، لكنه لم يكن يثير أية رهبة لدى من يصادفه واقفا غير بعيد عن الإدارة التي كانت أداته في ممارسة سلطته المطلقة في مراكش وفي التحكم في القبائل التي كانت تخضع لسلطته ، أو بالاحرى وضعتها سلطة الحماية تحت إمرته
لما غادرت مراكش في ربيع سنة 1952 ، كانت المدينة منفصلة تقريبا عن حي جليز الذي كان السكن فيه مقتصرا على الأروبيين ، وعندما استعاد المغرب أستقلاله وجد المراكشيون متنفسا في جليز الذي توسع وبسرعة كبيرة وانتشرت أحياءه غربا وشمالا ، وانضمت إليه أحياء كثيرة بعد ان تحولت الاراضي الزراعية المحيطةبالمدينة إلى مناطق سكنية لتستوعب النمو الديموغرافي السريع من جهة والهجرة القروية التي اتسع نطاقها في الجنوب ، كما في مختلف أنحاء المغرب من جهة أخرى .
ويجب هنا التنويه بمختلف الإدارات المركزية والاقليميةوبرجالها الذين ظلوا يحرصون على ان يتم في أفضل الظروف ، ذلك التحول السريع والواسع الذي عرفته مدينة مراكش. ، بحيث تم التحكم في التوسع والإنتشار السكني ،دون إقامة أية أحياء عشوائية ،إلا ما ندر ، ويرجع الفضل في التحكم قي التحول السكاني السريع بمراكش إلى تلك الادارةالتي أنشئت باسم ليراك وتحول اسمها الى العمران ، فكانت بحق أنجع أداة للتعمير واستحقت هذا الإسم الذي استعمله ابن خلدون المؤرخ الشهير ليصف ما تتميز به. الحضارات الناشئة ، إذ بدون عمران لا يمكن للبشر أن يتقدم في الحياة
لم يكن المراكشيون ، إلا ما ندر منهم يدركون على عهد الحماية ما تتمتع به مدينتهم من مزايا. ومؤهلات طبيعية ، وهي مزايا سرعان ما اكتشفها زوارها الأجانب الذين تضاعف عددهم مع مرور السنين ، لتصبح مراكش احد أفضل الوجهات السياحية في العالم ، ولتصبح سكنا ومحل إقامة لعدد من الأجانب الذين طاب لهم المقام بها واستطابوا التمتع بطبيعتها .
ويجب الاعتراف بأن الإدارات على اختلاف مهامها ومستوياتها ، المركزية أو الإقليمية أو المحلية كانت في مستوى ما تطلبه ذلك التحول الذي عرفته مدينة مراكش في الميدان السياحي من رعاية وعناية ، كما استطاع سكان مراكش التأقلم مع الصبغة السياحية لمدينتهم ، وأضفوا عليها من مرحهم وما يتميز. به طربهم ، مما زادها تألقا ، ولقد وفروا لها ما تتطلبه الصنعة. السياحية من عنصر بشري مؤهل ومتميز بالإخلاق وبحسن الاستقبال
وعندما توفر الطبيعة التي تتميز بها مراكش متطلبات ما تطمح إليه النفس لتنعم بالاطمئنان ، ويضاف الى تلك المتطلبات ما يوفره الانسان من أسباب الراحة وحسن الاستقبال ، أفلا تكون المدينةالبهجة المطلة على قمم جبال الأطلس المرصعة دوما ببياض الثلوج ، أفضل مكان ومأوي للراحة والاطمئنان ، بل وللإقامة. إذا ما توفرت الإمكانيات ؟
ومن مراكش التي في القلب والوجدان نحيي من أصبحت تغريهم مدينتي ومسقط رأسي بطبيعتها الخلابة وبأناسها الطيبين.