رغم حرصي الشديد، غير أنني من حين لآخر أقع في نفس الموقف، ويعتريني نفس الشعور السيء بأنني ضحية خدعة سيئة…
إذ أفقد أحيانا انتباهي لسبب ما أثناء السياقة لثانية أو ثانيتين، وهي مدة كافية ليقع المحظور! خصوصا حينما أتجاوز زحمة سيرٍ وأعبر إلى طريق متسع خالٍ فأحاول تعويض الوقت الضائع، لكنني بمجرد أن أستعمل ناقل السرعات وأنطلق حتى أفاجأ بحفرة عميقة لا يسعني تجنبها ولا تخفيض سرعة السيارة، فترتطم بها العجلات بقوة أشعر معها بالألم في قلبي..
أنا أعلم أن الحفر أضحت جزءا من ثقافتنا، وأصبحنا نعيش معها في انسجام، غير أن هناك فرقا كبيرا بين أن أمارس حقوقي كمواطن محترم وأختار بحرية أي حفرة أتجنب وأي حفرة أتوجه إليها؛ وبين أن يفرض علي أحدهم الحفرة التي أقع فيها! فهذا الأمر لا يستقيم.
لذا أنا لا أعترض على وجود الحفرة، وإنما المزعج هو عمقها الكبير وموقعها الخادع؛ إما بعد إشارة ضوئية يحلو للسائقين الانطلاق بعدها، أو وسط طريق جديد ممتد لا تتوقع معه وجودها.. ما يزعجني هو أن أكون ضحية خدعة، ما يغضبني هو ألا أستعد نفسيا لعبور تلك الحفرة، ما لا أتقبله هو ألا أستخدم حقوقي في اختيارها والتوجه إليها طواعية.
وحيث أنني مواطن محترم لا أقبل البذاءة ولا أستسيغ الشتائم القذرة، ولا أملك أيضا قنوات رفع شكوى والمطالبة بتعويض؛ فإنني عادة ما أعوض عن ذلك بالإبداع في صياغة أبلغ الدعوات على المسؤول عن تلك الحفرة، وهي دعوات بالعقاب الإلهي العادل لذلك الذي تسبب إهماله في تكوُّن تلك الحفرة أو في عدم إصلاحها، وبحسابات ذهنية سريعة لا أجد سوى رئيس البلدية لأحمله المسؤولية، فهو المسؤول إداريا عن صفقات تعبيد الطرق، وعن مراقبة جودة الأشغال وعن الإصلاح والصيانة؛ وحتى مع الدعوات الغاضبة أشعر بالغبن لأنني أطالَب في الفحص التقني السنوي للسيارة الذي فرضته “الدولة” بإصلاح الأعطاب التي تسبب فيها إهمال “الدولة”!
ولا ألبث، مثل كل مرة، أن أنسى كل تلك المشاعر السيئة، وأنغمس بكل وداعة في حياتي المليئة بالحفر التي تعودت عليها؛ حفر في العمل وحفر في البيت وحفر في العلاقات الاجتماعية وحفر في العلاقات العائلية… وأنسى كل مشاعر الغضب والاستياء والغبن، وأنغمس في متعة ممارسة حقي في اختيار الحفر الاجتماعية العديدة التي تحيط بي..
وتغمرني تلك المشاعر الوديعة بالسلام الوهمي حتى أصادفه فجأة! إما في الشارع أو في إحدى تغطيات بعض المحسوبين على الصحافة الإلكترونية، ولهؤلاء مقال خاص مقبل، حينها لا يستوعب عقلي حجم التفاخر والثقة بالنفس الذي يبدو عليه ذلك المسؤول، سواء أكان رئيس بلدية أو برلمانيا، إذ ينزل من سيارته باستعلاء، وهي في الغالب سيارتنا نحن الذين صوتنا عليه، ببشرته الملساء وملامحه الباردة والخالية من كل شعور بالتعاطف أو الخجل..
أكاد أصرخ في وجهه: يتعين عليك أن تشعر بالخجل أيها الفاشل!
فما معنى أن يكون منتخبا مشرفا على شؤون المدينة ولا يتحقق في عهده أي إصلاح ومع ذلك لا يشعر بالخجل؟ ما معنى أن ينغمس في الرشاوى والامتيازات غير المشروعة، ثم يمتلك مع ذلك القدرة على النظر في أعين المواطنين بكل وقاحة واستعلاء؟ ما معنى أن يكون برلمانيا مدمنَ غيابٍ ونوم، ومع ذلك يُستدعى في التدشينات، ويمشي باستعلاء وثقة، وبل ويوزع نظرات الرضا بسخاء على المواطنين البسطاء الذين يتبركون بها؟
لا أدري كيف غاب عن علم النفس هذا الاضطراب الخطير الذي يكلف الكثير مجتمعيا وحضاريا؛ إنه اضطراب نفسي أسميه “متلازمة الفاشل المحترم”، وهو بالمناسبة مرض منتشر بين مسؤولين فاشلين كُثرٍ لم ينجزوا شيئا يذكر طيلة فترات مسؤولياتهم، ورغم فشلهم هذا، إلا أنهم عوض أن يشعروا بالخجل من المواطنين نتيجة إخفاقاتهم، تجدهم وبشكل غريب، يعاملون أولئك المواطنين باستعلاء وثقة بالنفس، ولا يتورعون عن المفاخرات الإعلامية وتوزيع الابتسامات. ونظرا لانتشار هذه المتلازمة، فأنا أخشى أن تكون مرضا معديا، أو لعل نخبنا السياسية تصنع في بيئة غير معقمة أخلاقيا تنقل عدوى هذه المتلازمة!
تظهر متلازمة الفاشل المحترم عند الوزير الذي لم يستطع أن يقدم أي منجز في وزارته، وبدل أن يخجل، تجده يخرج بالتصريحات الوقحة التي يصرح فيها بما لم ينجزه ويمن على الذين خان ثقتهم بإنجازات كاذبة، أو قد يكون في مراحل متأخرة من “متلازمة الفاشل المحترم” فينتقل إلى مرحلة التهديد والوعيد!
وتظهر متلازمة الفاشل المحترم عند المسؤول الذي يخترق جموع المواطنين المقهورة في مدخل إدارته، ويصم أذنيه عن سماع شكواهم واحتياجاتهم بدل أن يشعر بالخجل لأنه فشل في إدارة مؤسسة تُقضى فيها مصالح الناس بشكل فعال وتلقائي؛
وتظهر متلازمة الفاشل المحترم عند الوزير الذي يقف في البرلمان ليلعب لعبة الأرقام الشهيرة، وهي لعبة تدار حصرا على أوراق الإدارة وملفاتها حيث تعلو المنحنيات وتتضاعف الإحصاءات، لكن بشكل عكسي مع الواقع الذي تتناسل فيه الإخفاقات؛
وتظهر متلازمة الفاشل المحترم عند المسؤول الذي لا يدرك أن دوره الأساس هو خدمة المواطنين وتطوير إدارته أيا كان مجال اشتغالها، وبدلا من ذلك يعتقد أن مهمته إصدار الأوامر وتوبيخ الموظفين وتتبع هفواتهم عوض أن يبدع لهم الرؤية ويبذل الحوافز. وبدل أن يحصي إنجازاته وما قدمه لمؤسسته، تجده حريصا على إحصاء تعويضاته المختلفة، ومضاعفة خرجاته الإعلامية؛
وتظهر متلازمة الفاشل المحترم عند المسؤول الذي يخصص له المقعد الأمامي، ويصر مع ذلك على الحضور متأخرا إلى تظاهرة ثقافية لا يفقه فيها شيئا ولا تعني له شيئا ولا يقدم لها شيئا سوى تأخير إنطلاقها، فهو لا يعرف معنى المعرفة ولا الثقافة، ولا يقدر قيمة الشهادات الجامعية؛ ولا تؤرق باله سوى شهادات الإعفاء الضريبي، ومع ذلك هو المسؤول عن دعم الشأن الثقافي وإدارته في مدينته؛
الفاشل المحترم هو كل مسؤول وقح، يعتبر أن المنصب امتياز يجعله أفضل من الآخرين، بدل أن يفهم أن المنصب مسؤولية أخلاقية؛ والفاشل المحترم هو كل مسؤول لم يقدم أي إنجاز ويعتبر أن ذلك أمر عادي؛ والفاشل المحترم هو كل مسؤول يعتقد أنه أفضل من الناس لأي سبب من الأسباب فينظر إليهم باستعلاء.. والفاشل المحترم هو كل مسؤول تعطلت بوصلته الأخلاقية، ولا يدرك أن أي مواطن بسيط يؤدي واجباته على نحو جيد، هو أحق بالتقدير والاحترام منه.
رجاء، أيها الفاشل المحترم، يكفينا عبء التعايش مع فشلك وإخفاقاتك، فارفع عنا استعلاءك الزائف، فنحن أولى بالفخر منك، ونحن أولى بالمن عليك؛
يكفينا صبرنا الطويل على أخطائك وفشلك وفسادك، وتكفينا طيبوبتنا السرمدية التي تدفعنا في كل مرة أن نمنحك فرصة أخرى ونصوت عليك من جديد، لذا حري بك أن تشعر أنت بالخجل… وبعض التواضع لن يضرك.