ما بقي من سنوات العمر، بوح سوسيولوجي
بوح سوسيولوجي وتأملات فكرية ونظرية لمن تعدى عتبة الخامسة والأربعين وصارت تظهر له جليا وأمام عينيه حقبة الستين وما فوق.
لقد صرت هادئا جدا، لم تعد تغريني الحياة ولا الناس، أحيانا أحس بنفسي وكإني وصلت السبعين فعلا، قد يكون سببها تجارب السنين المثيرة والكثير وخصوصا تلك السيئة منها، تلك التي علمتني دروسا لا يلقنها لك أحد على مدرجات الكليات، بل تتعلمهم جيدا بين دروب الحياة المتشعبة.
نعم تظهر لي جليا حقبة الربع الأخير من الحياة، الذي كان إلى سنين قليلة قبل اليوم، يظهر بعيدا ولا مفكر فيه. اليوم يتجلى أمام أعيني، ويطرح علي العديد من الأسئلة. سؤال الحياة، ومعنى الوجود ومعنى الشباب وصورة الشيخوخة والسطر الأخير قبل الرحيل.
بقلم عبدالله العبادي
نعم أفكر، كسوسيولوجي وأيضا ككاتب مغمور، يداعب القلم بين الفينة والأخرى، لعله يحدث ضجيجا من حوله، في زمن فوضى اللايقين، أو يرمي بحجرة صغيرة ليحرك المياه الراكدة قبل أن تصبح مستنقعات متعفنة، أو يدير حوارا يتساءل عن التفاهة والتافهون وكيف صاروا في الصفوف الأمامية لمجتمعات تائهة.
في منتصف العمر، نقف، نتساءل عن ما حققناه وما لم نحققه، ماذا فعلت بنا الدنيا وما فعلنا بها، وكيف يمكننا إدارة ما تبقى من زمن وجودنا، بشكل يخفف حمل الأعباء عنا، ليس مهما أن تفكر في تعويض ما ضاع منك في سنوات الشباب، او تتساءل كيف كنت تتمنى أمورا أن تفعلها ولكنك لم تفعلها. لا تندم على أشياء كنتُ تتمنى لو لم تفعلها ، ما القائدة. أو تندم على ما كان يجب أن تفعله ولم تفعله.
بل أنا سعيد بكل ما قمت به، فقد كانت أقداري ولا هروب منها، وسأجهز نفسي لسنوات جديدة وفترة جديدة وعهد شيخوخة قد يقتحم بابي في كل لحظة، لكني عازم أن أعيشه بنفسية الشاب الذي لا يريد أن يغادر أعماقي.
سنوات كثيرة مرت بمرها وحلوها، ولا ندري كم تبقى لنا هنا بين الناس، لكن علينا أن نجعلها أياما جميلة، لأن النضج قد تمكن منا، وفسح لنا المجال لنرى الحياة بعيون أخرى. في منتصف العمر، لن يتبقى لك الوقت للحقد أو محاسبة أحد أو التطفل على أحد أو محاولة معرفة ما يخبؤه عنك الآخرون، بالعكس لا تريد معرفة أي شيء لا يخصك، وتكتفي بما لديك وقد لا تبحث أن أصدقاء جدد، وترتاح لقهوتك وحيدا وسماع الموسيقى الهادئة وأنت تتأمل الحياة التي أصبحت بالنسبة لك، لا تستحق كل ذلك العناء الذي هلكت به نفسك.
بعد منتصف العمر ستصبح إجاباتك مختصرة ب لا، نعم، متى، أين.. لن تدخل في نقاشات عميقة ومهلكة لطاقتك، ستغادرها فورا، كما تغادر كل المجالس التي لا تلاؤمك، ستصبح محبا أكثر للوحدة والتأمل، وتكره الصراخ والأماكن المزدحمة، ستذكرك الأيام بأن الكنز الحقيقي في هذه الحياة هو صحتك الجيدة، فهي ثروة، وأن كل تفاصيل الحياة الأخرى لم تعد لها قيمة، ستبحث عن راحة البال وقد تتخلى عن كل شيء في سبيل ذلك، ستبدو مزعجا للآخرين من حولك، من خلالك هدوءك وتمعنك وفهمك للأمور، ولانك ستنسى العديد من الأسماء لأنها لم تكن مهمة يوما بالنسبة لك، لكنك اليوم لم تعد بحاجة أن تجاري المجتمع في مظاهره الكاذبة، لم يعد هناك متسع من الوقت لنكدب على أنفسنا، وقد تصدق مقولة “أننا صرنا كبارا” نعم، ربما هذا هو المقصود، صرنا نبحث عن الأمن والأمان الداخلي، أما تمظهرات الحياة فلم تعد تعنينا.