ألمانيا أوكرانيا إسرائيل ورثاء الفاشية والصهيونية والقدس مقدسة
تواجه روسيا إلى جانب العقوبات والحصار التاريخي غير المسبوق من قبل الغرب، الذي لا زال يتوهم أنه يمثل “المجتمع الدولي”، وقيم “الحرية والديمقراطية” على حد تعبيره، حقدا دفينا من جانب ألمانيا تحديدا.
إلا أن هذا الحقد، فيما أرى، له أسباب بعضها تاريخي وراثي، والآخر جيوسياسي متعمد، بسبب التقارب “المحرّم” وغير المقبول بين روسيا وألمانيا في الفترة التي سبقت العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا. فقد بلغ اعتماد ألمانيا على روسيا حدوداً غير مقبولة بالمرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أن الطرفين قاما ببناء خطي أنابيب “السيل الشمالي”، وهو مشروع ضخم يعود بالفائدة على الطرفين، لا سيما على القدرات الصناعية الهائلة لألمانيا الاقتصاد الأقوى في الاتحاد الأوروبي. لهذا كان من الضروري ألا يستمر ذلك التعاون بين قطبي أوروبا، وإلا ستصبح أوروبا قوية، وربما “مستقلة” عن الولايات المتحدة لا قدر الله. لذلك صدر قرار من الولايات المتحدة بقطع تلك الصلات بأي شكل من الأشكال، وبأي ثمن من الأثمان. فأوروبا لا بد وأن تظل خاضعة للإرادة الأمريكية، ولا بد ألا تحصل على استقلالها وإلا سوف تكون منافساً اقتصادياً شرساً للولايات المتحدة الأمريكية، الإمبراطورية التي تلمح في الأفق أفولها وانتهاء حقبة هيمنتها وعالم القطب الواحد. وجدير بالذكر هنا أن ألمانيا لم تكن يوماً مستقلة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بسبب التواجد العسكري الأمريكي هناك.
كذلك تعود أصول معظم السياسيين الألمان والمسؤولين وغيرهم من البرلمانيين إلى قادة ألمانيا النازية في عهد أدولف هتلر، ويعاني هؤلاء، وإن لم يدركوا أو لم يعترفوا بذلك، وعلى مستوى العقل الباطن، من عقدة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، ورفع علم الاتحاد السوفيتي على مبنى الرايخستاغ في 1945. ولا يمنحهم استسلام ألمانيا آنذاك راحة النوم بهدوء طالما ظلت روسيا دولة موحدة مستقلة ذات سيادة. لهذا يسعى جيل اليوم، بأي شكل من الأشكال، التخلص من هذه العقدة من خلال “هزيمة روسيا استراتيجيا”، وهو ما يعلنونه جهاراً نهاراً في تصريحات موثقة.
تمشي أوروبا “المحتلة”، بلا إرادة، في ركاب الولايات المتحدة الأمريكية وتابعتها بريطانيا “العظمى”، وتستغل المخططات الأمريكية والبريطانية لفتح جبهة عسكرية ضد روسيا بأيدي أوكرانيا، مع المراهنة على ضعضعة الوضع الداخلي في روسيا، وافتعال ثورة ملونة، والإطاحة بالنظام الحالي، من خلال العقوبات الاقتصادية، وسرقة الأموال المودعة في البنوك الأوروبية والأمريكية، أملاً في زعزعة الاستقرار داخل روسيا.
يأتي ذلك بالتوازي طبعاً مع إمداد أوكرانيا بالمال والسلاح “طالما تطلب الأمر” على حد تعبير القادة العسكريين من “الناتو”، أملاً في فوضى داخلية، بينما ينتظر الخونة والعملاء والجواسيس من المعارضة الروسية بالخارج، لإشارة البدء بالسيطرة على مقاليد الحكم ومفاتيح الخزائن الروسية، والانصياع الكامل للولايات المتحدة وبريطانيا و”الناتو”، فتتحقق حينها آمال وأحلام الساسة الألمان، ويأخذون بثأرهم من الهزيمة التي أصابتهم في الحرب العالمية الثانية.
لا ننسى كذلك أن التاريخ في المدارس الغربية يشكّل التاريخ على هواه، ويدعي، كما ادعى الرئيس الأمريكي أن المنتصر في الحرب العالمية الثانية كان الولايات المتحدة وبريطانيا، ولا يذكر الاتحاد السوفيتي (الذي دفع من دماء أبنائه 27 مليون أو يزيد في سبيل النصر) بكلمة واحدة. كذلك تقوم المؤسسات الأوروبية مؤخراً بالمساواة بين الشيوعية والنازية، وتضع الزعيم السوفيتي المنتصر جوزيف ستالين، والنازي المهزوم أدولف هتلر في سلة واحدة. ولا تعرف الأجيال الجديدة عن تحرير أوروبا من الفاشية سوى أن الولايات المتحدة و”حلفائها” هم من قاموا بذلك!
إن القيادة السياسية الألمانية الحالية تدرك تماماً أن حلفاء أوكرانيا أصبحوا على حافة الهزيمة الساحقة، وفشل مخططاتهم بهزيمة روسيا والسيطرة والهيمنة على ثرواتها، ولم يتبق لديهم سوى الاستمرار بإلحاق أكبر قدر من الضرر من خلال الاستمرار بتزويد أوكرانيا بالأسلحة ووسائل الدمار، ومحاولات الكذب الذي لا ينتهي على المجتمعات الأوروبية بأن النصر قادم، وأن روسيا على وشك الانهيار وغيرها من الأكاذيب المفضوحة، والتي يدحضها التغيير الذي نراه ماثلاً أمامنا بأفول هيمنة القطب الواحد، والانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب. يتضح مع الوقت مدى تورط السياسيين الألمان والأوروبيين في العمل ضد مصالح شعوبهم، لصالح الولايات المتحدة، وربيبتها أوكرانيا. يتضح أن التاريخ لا يجوز التلاعب به أو اجتزائه أو تزويره.
من بين علامات الهزيمة التي بدأت في الظهور على السطح تلك الخلافات الداخلية الواضحة في القيادة الأوكرانية الحالية، حيث ترفض أحد الأجنحة نهائياً إجراء أي اتصالات أو مفاوضات مع روسيا حتى على مستوى تبادل الأسرى في ظل التفوق العسكري الروسي الكبير. ذلك أن عودة الأسرى الأوكرانيين، بعد أن لقوا معاملة إنسانية راقية في روسيا، وأثر ذلك على استسلام مزيد من الجنود الأوكرانيين، لا سيما مع الهزائم التي تتوالى على القوات المسلحة الأوكرانية، يدفع بالجيش الأوكراني إلى الهاوية.
من هنا يصبح قرار إسقاط طائرة النقل العسكرية “إيل-76″، وعلى متنها 65 أسيراً أوكرانياً، أمراً منطقياً ومفهوماً. حيث يرغب النظام في كييف في تحذير من تسوّل له نفسه الاستسلام للعدو، إضافة إلى إمكانية إلصاق التهم كالعادة بروسيا، والهرولة نحو الغرب ومؤسسات الغرب لإجراء ما يزعمونه “تحقيقاً دولياً” كما يحدث دائماً.
يرغب النظام في كييف بإرسال رسالة واضحة وجدية إلى الجنود الأوكرانيين، وكذلك إلى الأسياد الغربيين بأن القيادة جادة في استمرار الحرب ضد روسيا، حتى يتسنى لها المطالبة بمزيد من الدعم والأموال من أوروبا والولايات المتحدة، عسى أن يرضى الكونغرس، والبرلمان الأوروبي عن أداء الجيش الأوكراني ونظام كييف.
إلا أن الأهم من ذلك هو ما تأمل فيه كييف من تدخل عسكري مباشر لـ “الناتو” وليس فقط عن طريق المساعدات العسكرية أو المرتزقة. إلا أن مثل هذه الأحلام بعيدة عن التحقق لما يدركه العسكريون في “الناتو” من حقيقة أن هزيمة روسيا عسكرياً مستحيلة، لا سيما بعد عامين من بدء العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا، ورؤية أسلحة “الناتو” المدمرة والعاجزة في ساحة المعركة في أيدي الأوكرانيين أمام الآلة العسكرية الروسية الراسخة.
أعتقد أن قرار إسقاط الطائرة هو بمثابة انتحار سياسي للقيادة في كييف، وأتصور أن تخلي “الناتو” عن هؤلاء أقرب مما نتخيل، وسنكون شهوداً على تغيير جدي في أوكرانيا، ربما يتبعه بدء مفاوضات روسية أوكرانية جادة، قد تفضي إلى عودة العلاقات الطبيعية بين الشعبين والبلدين، بعد استيفاء الاعتبارات الأمنية بالنسبة لروسيا من جهة “الناتو”، وإلغاء فكرة انضمام أوكرانيا إلى الحلف نهائياً.
في سياق مختلف، وبعد قرار محكمة العدل الدولية باتخاذ كافة الإجراءات لمنع “الإبادة الجماعية” في غزة، وعدم قبول طلب إسرائيل برد الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، وهو قرار يأتي بعد الحكم الذي أصدره مئات الملايين من البشر الأحرار في كثير من الدول (بعضها أوروبية) من خلال المظاهرات التي خرجت ولا زالت تخرج في إدانة واضحة للجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي أن الولايات المتحدة “لا ترى أي دليل على ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في قطاع غزة”!!
بعد كل هذا الإمعان في القتل والتدمير، وبعد عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، يقول لنا كيربي إنه “لا يرى دليلاً” على الإبادة الجماعية. فهل يعقل هذا؟!لكن المرء يفهم المسؤول الأمريكي الرفيع حينما يراجع إجراءات الإدارة الأمريكية الحالية، في بداية الحرب على غزة، حينما أرسلت أسطولها وحاملتي الطائرات، ووفرت وتوفر لإسرائيل كل الصواريخ والقنابل اللازمة لقتل الفلسطينيين، لا سيما أن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض في مجلس الأمن ضد وقف العمليات العسكرية في فلسطين، في مشاركة متكاملة الأركان في “الإبادة الجماعية” التي ارتكبت وترتكب يومياً بحق شعبنا الفلسطيني.
تكتمل الصورة بما صرح به وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير بأن قرار المحكمة “المعادية للسامية” في لاهاي “يثبت ما كان معروفا بالفعل، فهذه المحكمة لا تسعى إلى العدالة، بل إلى اضطهاد الشعب اليهودي. لقد كانوا صامتين خلال المحرقة، واليوم يواصلون النفاق، ويخطون خطوة أخرى إلى الأمام”.
وأضاف: “يجب عدم الاستماع إلى القرارات التي تعرض استمرار وجود دولة إسرائيل للخطر”، مؤكداً على ضرورة “مواصلة هزيمة العدو حتى النصر الكامل”، ويعني بذلك طبعاً “مواصلة الإبادة الجماعية”.
إن القيادة الإسرائيلية الحالية، والتي تعد أكثر حكومات إسرائيل تطرفاً على الإطلاق، ترتكب جريمة هي الأكبر ضد اليهود أنفسهم، لأن العزلة التي تعاني منها إسرائيل اليوم أمام أكثر من ملياري نسمة حول العالم، لا يمكن أن تكون في مصلحة اليهود أو الدولة العبرية الشابة نسبياً، وإذا كان اليهود يطمحون إلى الحياة في أمان واستقرار في الشرق الأوسط لقرون قادمة، فعليهم التراجع وفوراً عن تلك المخططات والأوهام المستحيلة، وليقرأ الراشدون منهم التاريخ، ولتعي نخبهم ومثقفوهم دروسه، ولينظروا إلى جغرافيا المنطقة، ويدرسوا توازنات القوى والديناميكا الجيوسياسية في المنطقة وحول العالم، من أجل مصلحة الشعب اليهودي لا من أجلنا نحن. لأن أحداً لن يستطيع تبرير الجرائم الصهيونية، ولن يتسامح معها أحد، ولن ينساها التاريخ. وستبقى دولة إسرائيل مجرمة لن يبرر جرمها، خلال الأشهر الأخيرة ما تدعيه من أنها “معركة من أجل القضاء على حماس”، وحتى قبل قرار محكمة العدل الدولية.
كذلك لم تعد مصطلحات “الهولوكوست” و”العداء للسامية” و “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” مبرراً مقنعاً لملياري إنسان على الأقل، القدس بالنسبة لهم مقدسة، يتابعون الأحداث، ويؤيدون نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه في العيش بدولته المستقلة على كافة أراضيه التي تم تحديدها في قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة قبل 76 عاما، ويرون بأم أعينهم ما ترتكبه إسرائيل يومياً بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وما كشفت عنه تلك الجرائم من جرائم أخرى مماثلة استمر في ارتكابها الصهاينة خلال 75 عاماً من الاحتلال.
ولن يغفر العالم قتل الأطفال والنساء ومحو المدن الفلسطينية من على وجه الأرض، وسيتزايد الحقد والكراهية ضد اليهود خاصة في العالم العربي والإسلامي، وستذهب كل الجهود التي استثمرت فيها المؤسسات والمنظمات اليهودية حول العالم مأساة “الهولوكوست” سدى، لأن الكثيرين سيبدؤون التشكيك في دقة حقيقتها، لأن شعباً تعرض بالفعل لهذا الحجم من المحارق والتطهير العنصري لا يمكن أن يلجأ إلى إبادة جماعية عنصرية مثلما يحدث الآن في غزة ضد المدنيين من الأطفال والنساء. كيف؟!
لقد ارتكبت القيادة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو جرائم ليس فقط بحق الشعب الفلسطيني، ولكن أيضاً بحق اليهود في كل العالم، وهذا ليس حكم محكمة العدل الدولية، بل حكم مئات الملايين البشر حول العالم، والذي نراه في المظاهرات التي تخرج يومياً لتدين الجرائم ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية جمعاء.