وهم الانتصارات وبؤس الواقع
اجتاحت ظاهرة الشعبوية، خطابًا وممارسةً، العديد من النخب السياسية العربية، فراهنوا على نشر الأمل في تحقيق المعجزات، واعتبروا أنفسهم صدى الشعب الحقيقي، وبدأوا بتقديم إجابات شاملة وأحيانًا ساذجة لقضايا مصيرية، وبلغة مختلفة وأحيانا بليدة، معتقدين انهم بهذه الطريقة يكسبون عطف الجماهير.
إلا أن الشعبوية اليوم في وطننا العربي، صارت عاجزة عن تقديم بدائل اقتصادية أواجتماعية قادرة على حماية الطبقات الضعيفة، أو طرح مشروع نهضوي وتنموي يلبي حاجيات الناس، بل أصبحت تبحث عن ملهاة أخرى للشعوب كخلق عدو خارجي او البحث عن مشاكل في الحدود أو مع الجيران، لتشتيت انتباه الشعب عن واقعه البئيس.
بقلم عبدالله العبادي
كما أن غياب المؤسسات الديمقراطية أو ضعفها، أدى إلى بروز قيادات بعيدة جدا عن الميدان السياسي ولا علاقة لها بالسياسة، وغير مؤهلة لقيادة لا أحزاب ولا سياسات حكومية، ولا برامج واضحة لها، بل تتغدى من الأزمات المؤقتة وتخلقها أيضا وقت الحاجة، ويظهر ذلك جليا في الأنظمة العسكرية والشمولية التي تأن تحت وطأتها بعض الشعوب العربية.
ومن الواضح للعيان، أن سياساتهم سرعان ما تُكتشف حدودها وعدم فاعليتها، لكنها ترتكز في وجودها على نخب لها ثقافة سياسية هشّة، ترتكز في تفكيرها السياسي، ليس من الواقع والحكمة والتجارب الحياتية سواء داخليا أو خارجيا، بل تعود إلى ماضيها وبطولاتها الباهرة والوهمية، وأحلامها وأحيانا أساطيرها، لذلك تجدهم دائما في بحث مستمر عن قائد منقذ.
المشكلة أن هذه القيادات تؤثر بشكل كبير في الفكر الجماعي للناس، وتجدونهم يدافعون عن نخبهم، ويحبون سماع عبارات نحن شعب لا نقهر، ونحن الأعلون، وثابتون على مواقفنا، فيتم شحن المشاعر الجمعية لاستمرارهم في قيادة القطيع. متناسون أنهم بحاجة لنخب عصرية تجيد الحنكة السياسية والمنفتحة على الأفكار والرؤى المختلفة، والتي تقبل العمل مع المؤسسات وتحترم دورها وتعمل على ألا تتجاوز حدود ما هو مسموح به.
جل هذه النخب الشعبوية الموجودة اليوم، تحمل رؤى إيديولوجية مختلفة بائدة ومتناقضة، لكنهم متفقون على رفض الأحزاب السياسية وكل الهياكل الأخرى التي تتطلبها الممارسة الديمقراطية المجتمعية. فهم، كما أشرت، يستغلون التوتر الحاصل بين القوى الدولية أو حتى مع الجيران، لتضخيم الأنا والوطنية الزائدة من أجل شحن النفوس بالحقد والكراهية أحيانا باسم الدين أوحيانا باسم التاريخ والهوية وغيرها.
خلاصة القول إن القيادات الشعبوية العربية، عوض التركيز على البناء الديمقراطي وتحضير أرضية جادة لبناء المؤسسات والقوانين والقيم، هي اليوم، تتراوح بين الأداء السياسي الكارثي والتهريج الخطابي بحلول اقتصادية واجتماعية ترقيعية في مجتمعات تملك ثروات طبيعية لا تحصى.
فإذا كانت الشعبوية في الدول الديمقراطية مؤقتة وسريعة الاختفاء بحكم وجود مؤسسات قوية وراسخة وكذا رغبة المجتمع أيضا في تجاوزها، الشيء الذي يؤدي إلى غيابهم في أول انتخابات، إلا أن زمنها قد يطول في البلدان ذات المؤسسات المتآكلة وهشاشة المجتمع المدني وغياب الثقافة الديمقراطية، وفساد الأحزاب السياسية، فيطول عمرها من خلال الصناديق ومن خارجها ليتوطد الاستبداد.