الحرب بين روسيا وأوكرانيا أشعل فتيلها الغرب منذ عام 2014
بقلم / د. أيمن أبو الشعر
• أمريكا تلعب دور عازف “الدربكة” في ماخورات ونوادي السياسة الدولية الليلية! ولا تصطاد في المياه العكرة، بل تعكر المياه كي تصطاد
-” لو… لكان…”
أعلن مندوب روسيا الدائم فاسيلي نيبينزا في جلسة مجلس الأمن الدولي التي عقدت الإثنين 12 – 02- 2024 بطلب من روسيا بمناسبة الذكرى السنوية لإبرام اتفاقية مينسك للتسوية السلمية في أوكرانيا: “أنه لو قامت كييف بحسن نية وبشكل منهجي بتنفيذ بنود اتفاقيات مينسك لتم إحلال السلام في أوكرانيا حيث كانت تلك الاتفاقيات الفرصة الوحيدة لإحلال السلام في أوكرانيا”، وأوضح نيبينزا أنه كان لا بد للتوصل إلى تسوية من إجراء حوار مباشر وشامل بين أطراف النزاع وفق ما تنص عليه الاتفاقيات، مؤكدا أن قرار شن عملية عسكرية خاصة تم بعد أن بات واضحا بسطوع أن جميع التدابير الممكنة للتوصل إلى تسوية سياسية ودبلوماسية قد استُنفدت، ولم يبق أمام موسكو لحماية سكان دونباس من الإبادة الجماعية أي مخرج سوى هذه الحل! إنها دعوة جدية إذن عبر مجلس الأمن لقراءة التاريخ بموضوعية، والاستفادة من دروسه…
ولعل أهم درس في هذا المجال يمكن تعميمه على الكثير من الدروس المشابهة والتي تقف وراءها الولايات المتحدة تحديدا والدول السائرة في ركابها، ذاك أن هذه الحرب ابتدأت عمليا قبل عشر سنوات وتحديدا عام 2014 باعتراف ميروسلاف جينكا مساعد الأمين العام للأمم المتحدة في الجلسة ذاتها، ولكن لماذا تلعب أمريكا دور عازف “الدربكة” في نوادي السياسة الدولية الليلية كما ورد في العنوان الفرعي؟
-من هو المؤجج؟
يستخدم الناس البسطاء في إطار الفراسة والحنكة الشعبية لتحديد المذنب الحقيقي تشبيها بالغ الدلالة، وهو أن المسؤول الحقيقي عن استمرار الصخب في النوادي الليلية هو عازف الطبلة “الدربكة”، لأنه كلما هدأ الناس قليلا يقوم بعزف صاخب فتهتز من جديد أرداف الراقصة، ويعلو الهرج والصياح من جديد…والمعروف للجميع أن أمريكا تعتمد أساليب الإطاحة بالأنظمة التي لا تروق لها عن طريق زيادة الصخب والصراخ – الاقتتال وتحريك الشارع الذي قد يكون متذمرا من أمور أخرى تماما، لكن واشنطن توظف أي شيء لخدمة مصالحها، والشواهد على ذلك كثيرة بما في ذلك استخدام قواتها أو عملائها في سبيل ذلك، كالقضاء على حكومة مُصدق الوطنية وإعادة شاه إيران إلى الحكم عام 1952 ، ومساعدة جيش بوليفيا لقتل المناضل الأممي غيفارا، والقضاء في تشيلي على الزعيم الوطني الليندي وتكريس الديكتاتور العسكري بينوشيت بديلا عنه، ناهيك عن العراق وليبيا وغير ذلك كثير، عدا عن المساهمة في تنصيب قادة موالين لها بشكل مطلق كرئيس جورجيا ساآكاشفيلي مع دور بارز لزوجته ساندرا الهولندية، ورئيس أوكرانيا يوشينكو مع دور هام لزوجته الأمريكية كاترينا.
الذي حدث في موضوعنا هذا هو أن واشنطن استغلت انهيار الاتحاد السوفييتي وتغلغلت في عمق القوى القومية في أوكرانيا، وعبر سنوات تم الإيحاء للشعب الأوكراني بأنه حين يبتعد عن روسيا ويتقرب من أوروبا سيعيش في الجنة واعدينه بالانضمام إلى التحاد الأوربي وهي كذبة كبيرة فتركيا أقوى بكثير من أوكرانيا ومع ذلك تسعى منذ عشرات السنوات للانضمام إلى الاتحاد الأوربي ويرفض طلبها…كما واقع الحال أن أوكرانيا مرتبطة اقتصاديا وصناعيا وحتى في إطار الدم والقربى والدين بروسيا لكن المصالح الأمريكية والغربية هي الأساس لأن واشنطن أرادت أن تزرع خنجرا حقيقيا في خاصرة روسيا فحين لم يوقع الرئيس يونوكوفيتش على ميثاق الشراكة مع أوروبا، حتى أنه لم يرفض بل أجل الأمر لضرورة الدراسة…
نولاند الأمريكية توزع الفطائر على المتظاهرين الأوكرانيين!
…بدأت الاحتجاجات التي أيد الغرب وأمريكا فيها المعارضة بدرجة مفضوحة وغير لائقة ولا تعرفها التقاليد الدبلوماسية، فحين أقيمت المتاريس في ساحة كييف حذرت واشنطن الرئيس يونوكوفيتش من أي استخدام للقمع ضد المتظاهرين، وفي الوقت نفسه كانت تحرض المتظاهرين بكل الوسائل عبر السفارة الأمريكية والإعلام الغربي بقضه وقضيضه، بل إن فيكتوريا نولاند وكانت مساعدة لوزير الخارجية الأمريكية سافرت إلى كييف، ونزلت إلى ساحة العاصمة وراحت تشجع المتظاهرين ضد الرئيس وتوزع عليهم الفطائر… ألم تأخذ على عاتقها دور الطبّال، أو عازف الدربكة، هذا في الوقت الذي كانت بعض الجهود تسعى لتهدئة الأوضاع ، وصل الأمر إلى حالة مؤلمة جدا حين كان يشاهد على شاشات التلفاز كيف يهاجم المتظاهرون رجالَ الشرطة الذين يختبئون حلف دروعهم، ويسقط منهم جرحى وقتلى حتى أن بعضهم احترق بفعل الزجاجات الحارقة التي كان يرميها عليهم المتظاهرون!!! والأنكى من ذلك أن مجموعات خبيثة كانت تقوم بإطلاق النار على الشرطة والمتظاهرين لتعميق الصدام، واضح تماما من الذي يمول مثل هؤلاء المسلحين أليس كذلك؟
-بدء الردود الحاسمة
انتهت هذه المعمعة بسيطرة المعارضة الموالية لواشنطن على السلطة، ولجوء يانكوفيتش إلى روسيا. لتبدأ مرحلة أكثر خطورة فموسكو ليست غبية لتسلِّم شبه جزيرة القرم التي يطمح الناتو بالحصول عليها كونها إداريا تنتمي لأوكرانيا وفيها قاعدة أسطول البحر الأسود الروسية الضخمة، ولكن القسم الأكبر من سكانها هم من الروس، وبالتالي اتُخذت خطوات جريئة وعملية وقانونية حيث جرت عملية استفتاء لتقرير المصير، وكانت النتيجة المطالبة بالعودة إلى روسيا بنسبة 95،5% ذاك أن شبه جزيرة القرم كان قد ضمها خروشوف إلى أوكرانيا إداريا عام 1954 انطلاقا من أن الجميع على أية حال ضمن الاتحاد السوفييتي، وهكذا سحب بوتن البساط من تحت أقدام واشنطن والغرب وأطلق يوم الإعلان عن انضمام القرم إلى روسي عام 2014 مؤكدا أن شبه جزيرة القرم تعود إلى مينائها الأم وللأبد.
تحملت واشنطن والناتو الصفعة لكنهما بيتا عمليا مخططات لتعميق النزاع، فهناك منطقة دونباس حيث جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك وغالبية روسية، فراحت السلطات الأوكرانية الجديدة التي تتهمها موسكو بأنها من النازيين الجدد تقوم بقمع هائل لسكان هذه المناطق التي رفضت الإقرار بالانقلاب، وبات واضحا أنها تريد الخلاص منهم وترحيلهم، وبدأت بقصف ممنهج بالطائرات والمدفعية والدبابات، وبدل أن يسعى الغرب وواشنطن إلى التهدئة خاصة أنهم واقعيا سيطروا على كييف تماما، تم خداع روسيا بفكرة اتفاقيات تسوية ظلت تناوح مسرحيتها طويلا إلى أن أقرت في 15 فبراير 2015 وتبنى مجلس الأمن الدولي هذه الاتفاقية لوقف إطلاق النار، وسحب الأسلحة الثقيلة، وبدء حوار حول النظام المؤقت للإدارة الذاتية لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك…
-خدعة روسية تكشف لعبة الكشاتبين الغربية
اكتشف الكرملين حسب بيسكوف الناطق باسم الرئاسة الروسية أن اتفاقية مينسك لم تكن سوى لعبة كشاتبين… ولهذا كما يبدو كان لا بد من وضعها على المحك بلعبة مقابلة، حيث قام المخادعان الروسيان فوفان وليكسوس بتمثيلية تقنية ذكية حيث تم إقناع الرئيس الفرنسي هولاند بأن الذي يتصل به هو الرئيس الأوكراني بووروشينكو، وأعلن “الممثل الروسي” بصوت بوريشينكو عزم أوكرانيا القتال حتى النهاية، فأيد هولاند ذلك وأعلن أنه مع ميركل “أرادا كسب الوقت لتمكين أوكرانيا من التعافي وتعزيز قدراتها العسكرية…” وكانت ميركل قد أعلنت بأن الهدف من اتفاقية مينسك هو منح أوكرانيا المزيد من الوقت لتصبح أقوى، ما يفسر ضخ الأسلحة لكييف قبل بدء العملية العسكرية الروسية.
نصل إلى واقع تأكيد عازف الدربكة لدوره مع رغبة الراقصة بهز البطن مجددا في مفاوضات إسطنبول، والتي كان يمكن أن تسفر عن طريق سلام بدل الحرب وكانت كما مباحثات اتفاقية مينسك خدعة جديدة فقد وصلت المباحثات في اسطانبول إلى مرحلة متقدمة وجيدة عندها سحبت روسيا قواتها من مشارف كييف، وسرعان ما أوقفت السلطات الأوكرانية المفاوضات بإيعاز من الغرب، نعم عازف “الدربكة” لا يريد الهدوء لأنه يعرف أنه سيحقق مآربه عبر الصخب، وخاصة الدموي، فأحقر الصيادين ليس من يصطاد في الماء العكر، بل من يعكّر الماء لكي يصطاد.