كتب: أنور العواضي( اليمن)
يتفرد اليمن بطقوسٍ رمضانيةٍ أصيلة، تمتاز عن غيرها بالتنوع سواءً في ذلك الاستعداد الذي يبدأ فيه الأطفال بشراء القناديل والمصابيح والألعاب النارية واللُّعب الخاصة بشهر رمضان، أو بتلك التراحيب التي يغردون بها ما بين صلاة المغرب والعشاء بعبارة “يا مرحبًا بك يا رمضان” بنبراتهِم البرئية، وأصواتهم الشجية، التي تعطي إحساس بروحانياتٍ تجلبُ على القلب الهدوء من كلِّ النوافذَ والأبواب.
فيما يتمثل استعداد ربَّات البيوت لشهر رمضان بشراء المواد الغذائية الخاصة بالوجبات الرمضانية، بالإضافة إلى تنظيف المنازل وغسلها بشكل كامل، ثم ترتيبها، وشراء ما ينقصها من البخور والعطور والمشروبات.. الخاصة بزيارات وسهرات الأمسيات الرمضانية المُبهجة فائحة السعادة، باعتبار أن الشهر الفضيل هو أكبر مدةٍ يتاح فيها اللقاء مع كل أفراد العائلة بعد غايب الغربة وظروف الحياة المختلفة.
اختلاف نمط الحياة:
حيث يستقبل اليمنيون أول ليالي رمضان المبارك بحفاوة من بعد غروب الشمس آخر أيام شعبان، كونه الضيف الذي أرسله الرحمن إليهم، ليمحو فيه ذنوبهم ويبارك فيه أعمالهم في أعمالهم، فهو شهر التزودِ بالطاعات، حيث يحرص فيه الكثير على قراءة القرآن، والديمومة على الاستغفار، وزيارة الأقارب وصلة الأرحام باستمرار، معتبرين ذلك فرصةً لتقوية الروابط الأسرية، وتقوية أواصر الأسرة المجتمعية في اليمن.
وبطبيعة الحال، فإن مظاهر الحياة تبدو مختلفةً، إلى حدٍ يكاد لا يترك شيئًا لوجه التشابُه مع باقي أيام السنة، إذ ينقلب الليلُ اليمني إلى نهارًا مزدانًا بالحضور الراقي، واللمات المباركة الباعثةُ للهدوء، الجالبة للوقار والسكينة.
وكذلك النهار يصيرُ ليلًا، تكاد لا تسمع فيه صوتًا سوى ثغاء الأغنام، وتغريد الحمام، وملامسة الهواء الرقراق للأشجار، المحيطة في المنازل؛ ذلك لأن شهر رمضان عند اليمنين هو شهر استقرار وسكينة، تهدأ فيه الأرواح وتسكن فيه الأفئدة، بعيدًا عن كلَّ ضوضاء الحياة ومشاقِّها.
طقوس ليالي رمضان:
منذ أن يُمسك الصائمون عن الأكل والشرب في أول فجرٍ من الصباحات الرمضانية الهادئة، التي ينام فيها الكثير بعد أن سهروا ليلهم، مع أحبابهم وأصحابهم.
تشرق الشمس فتذهب النساء الريفيات إلى المزارع والحقول، ثم يعُدنَ الساعة التاسعة أو العاشرة وينمنَ إلى صلاة الظهر، ومِن ثُمَّ منهن مَن تكتفي بنوهما هذه ومنهُن مَن تعود إلى لتنام حتى صلاة العصر، ثم يستيقظنَ ليصنعن أول وجبة رمضانية المتميزة ذات المذاق اللذيذ ابتداءً من الساعة الرابعة عصرًا.
حيث يشعر المارُّ بجانب المنازل في أحياء المدينة برائحة طعام الإفطار الزكية تفوح المكان،
كما إنه يسمع القارئ الشيخ “محمد حيسن عامر” الذي ارتبطت نبرتهُ ارتباطًا وثيقًا في ذاكرة الشعب الرمضانية، وذلك لنبرتهِ الداودية الجميلة.
وسترى حيوية مُدهشة وعجيبة في الشوارع اليمنية فهذا يشتري، وهذا يبيع، لا سيما أسواق الخضار والفواكة التي تكون فيها الحركة أكثر نشاطًا.
أما في الريف فإنك ستشاهد الدخان يتصاعد من المطابخ التي تضرم فيها نيران الحطب المُستخدَمة للطهي الذي يجعل المذاق أكثر لَذَّةٍ.
بينما يستيقظ أزواجهن ليتلون ما تسير من القرآن الكريم حتى يحين وقت الإفطار، بينما الشباب فيهم من يقعد للقراءة، ومنهم من يخرج إلى السوق لشراء الخضراوات والفواكة والعصائر.. في حال كانوا ممن يقطنون المدينة.
وكذل شباب الريف غالبًا ما يتجتمعونَ في لماتٍ مباركة فيصعدون إلى الجبال القريبة، أو ينزلون إلى الأودية الخضراء، ليرتووا من جمال الطبيعة الريفية الخلابة، إلى ما قبل أذان المغرب، ثم يغادرون تلك الأماكن ويَصِلُون بيوتهم ويفطرون بتمرٍ وقهوة، ثم يؤدون صلاةَ المغرب، ويعودوا ليتناولوا لوجبة العشاء، التي كانت قد أعدَّتها أمهاتهُم وأخواتهُم بذاق لذيذ غاب عنهم منذ عام كامل،وغالبًا ما تكون هذه الوجبة هي وجبة الشفوت الخفيفة، ثم بعد ذلك يجلسوا أمام شاشة التلفاز ليشاهدون المسلسلات الرمضانية التي تُبَثُّ ما بين صلاة المغرب والعشاء لمدة ٤٠ دقيقة غالبًا.
أكلات رمضانية:
لم يكن تعدد وجبات أطباق المأكولات اليمنية وتشكلها وتنوعها بما هي عليه بمحض الصدفة، بل كان مهندَسًا ومدرُوسًا بعناية طبية، تضمنُ صحةَ الجهاز الهضمي، الذي يكون عرضة للكثير من الأمراض سيما في أُولى أيام شهر رمضان.
فالبرنامج الصحي المُتبَع لدى الشعب اليمني في رمضان يجعل الصائم يفطر بثلاث حبات تمر مع كأس قوه من البن اليمني الشهير، ثم يصلي المغرب ومن ثم يعود لتناول وجبة الشفوت الخفيفة على المعدة، ومن ثم الذهاب إلى صلاة العشاء والتراويح ثم يعود لتناول ما شاء من الوجبات، والحكمة من وراء ذلك كلُّه؛ هي تهيئة المعدة الفارغة شيئًا فشيئًا لتجاوز الأمراض التي قد تصيب الجهاز الهضمي.
حيث تتكون المائدة اليمنية في شهر رمضان من عدة أكلات تلبي الأذواق المتنوعة ومن أشهر هذه الطباق :
1 الشفوت أو اللحوح وهو أشهر وجبه يمنيه يتم تناوله بعد الافطار في القهوه والتمر.
2 المندي: هو طبق عربي شهير يتكون من اللحم المطبوخ مع الأرز والبهارات.
3 السلتة هي طبق يمني شهير يتكون من اللحم والخضروات والبهارات.
4المقلوبة هي طبق يمني شهير يتكون من اللحم والأرز والخضروات.
5 المندوس هو طبق يمني شهير يتكون من اللحم والأرز والبهارات المحشوة في ورق العنب.
وإجمالًا فإن هناك وحبات كثيرة لا يمكن حصرها، إذ أن كل منطقة لها أطباقها الخاصة التي تميزها عن المنطقة الأخرى، ولكل محافظة عادات وتقاليد مختلفة عن الأخرى.
السهرة في الديوان اليمني:
تختلف طقوس سهرات الأمسيات الرمضانية اليمنية الهادئة ذات الطابع الأصيل والمتفرد، حيث ثقوم النساء بتلطيف غرف المنزل لا سيما المجالس بالبخور اليمني، وتجهِّز العطر وشراب الضيافات، ثم يأتي الضيوف حيث يجتمع الأهل والأصدقاء في مجلس الضيافة، ويمضغون شجرة القات التي تتناول بشكل كبير(شجرة يكيف عليها غالبية الشعب اليمني)، ويتبادلون أثناء مضغها الأحاديث الدينية، فإذا دخلت المجلس اليمني، فإنك ستشعر أن مَن فيه يعيشون لحظات الحماس، ومشاعر الإيناس، وكلمات اللطف،
وأخبار المودة، وحجم الألفة السائدة بين المتواجدين.
وسترى طُمأنينةً في الملامح، وإشراقةً في الوجوه، وجمالًا في المظهر، وهدوءًا في الطبائع.
وستراهم أيضًا يتابعون الأخبار، ويشاهدون البرامج، ويتأملون المسابقات، ويبصرون إلى المصلين في الحرم المكي.
وستسمع الطرائف المُسلية، والنكت المُضحكة التي يَقصُّهَا غالبًا كبار السن عمَّا حدثَ لهم أيام شبابِهم، والتي من شأنها أن تضيف للحضور أجواء المرح وتثير حِسَّ الفكاهة وروح الدعابة لديهم.
كما إنك ستسمع عباراتِ الوعض، وتحرك المسابح، وتقلب صفحات القرآن، فهذا يتحدث بما يعلم من الفقه، وذلك يقصُّ ما يعلم من سيرة الرسول، وثالث يذكر قصة تاريخية فيها عِبرة، ورابعٌ يُسمِعَ الحاضرين حكمة، وخامسٌ يذكر فائدة..
بينما تجتمع النساء على ذات النسق ونفس الألق، فيزاورنَ بعضهن البعض، ويتبادلنَ الأحاديث، ويلاعبنَ أطفالهن الذين كانوا قد اشتروا ألعابهم قبل مجيء رمضان، فتارةً يَهزِمَنَهُم وتارةً يهزمونَهنْ.
كما انهن يشاهدن المسلسلات الرمضانية، والبرامج الشعبية على الفضائيات اليمنية،
ويتابعنَ البرامج الخاصة بتعلم الطبخ خوصوصًا تلك المتعلقة بتحضير الوجبات الرمضانية، ويقضِينَ لياليهُنَّ بأحاسيس أكثر بهجة وسعادة.
قلوب متآلفة وأيديٍ كريمة:
بالفطرة يمتاز أهل اليمن برقةٍ القلوب، ولين الاحاسيس ورهف المشاعر كما قال عليه الصلاة والسلام عنهم ” أهل اليمن أرقَّ قلوبًا وأليَن أفئدة”. حيث يتتبع الميسورين أولئك الذين ضاق عليهم الحال وكشر الفَقر في وجوههم؛ فيعطونهم بكفٍ خفية، ويدٍ سخية، ويتصدقون عليهم بما استطاعوا من المال والثياب والطعام والشراب..
إضافةً إلى ذلك فإن النفس اليمنية المعطاءة، لم تكتفِ في الإنفاق على الفقراء والمساكين فقط، بل تجاوزت ذلك وفرش سُفرَ الطعام في شوارع في المدن والأحياء السكنية، وكذلك أمام الجوامع ليأكل في تلك الموائد الغني والفقير والكبير والصغير، إذ يأتي غالبية أهالي الحي بطعام ويحطونه على هذه السفر المباركة، فهذا يأتي بلحم، وهذا يأتي بخبز، وآخر ياتي بحلويات، وذاك يأتي بخضراوات؛ وبهذا تتشكل مائدة جماعية ليأكل منها كل من هبَّ ودب، بمَن فيهم ذلك الذي يصعُبُ عليه أن يمد يده للناس ولم يدرِ أحدٌ بفقره وعوزه ومن شأن هذه المائدة تجعله يتجاوز ذلك الإحراج والخجل لقلة ما في اليد.
وبطبيعة الحال فإن الضيافة في القرى والأرياف تبدو بذات المظهر، النفس اليمنية الكريمة لا تختلف سواءً أكانت بالريف أو المدينة، ولكن ما يختلف هو طريقة الضيافة، وطرق إعداد الطعام الذي يكون أكثر صحةٍ، وألذ مذاقًا، وأكثر فائدة في تلك القرى، حيث يستخدم الكثير منهم الأجبان الطبيعية بنوعيها الغنمي والبقري، وألبان البقر والغنم، بدلًا من الأجان والألبان الصناعية، ويتعاطونها فيما بينهم، لستخدمونها بطرق مختلفة، تتناسب مع أذواقهم، وكيفما يشتهون.
هكذا يبدأ اليمنيون في الاستعداد لشهر رمضان
المبارك، حيث الصغير يغرد ويهتف بالعبارات الرمضانية، والكبير يُعِدَّ ويستعد لشراء كلَّ ما يحتاجه في الشهر الفضيل من مواد غذائية ومشروبات وعطور وبخور..، ويعيشون فيه الروحانيات والأجواء التعبدية، ويقضون لياليه بين تلاوة القرآن، ومجالسة الأصحاب والخلان، في أجواء مبهجة ومرحة، تحقق لهم سعادة الروح وطُمانينة النفس.