ماكرون يسعى إلى تغيير النظام في كييف
لاقى تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن إمكانية إرسال قوات من دول “الناتو” للقتال في أوكرانيا صدى واسعا وتحليلات مختلفة من كافة الأطراف، لا سيما بعد تنصل دول “الناتو” من التصريح، وإعلانهم صراحة أن أحدا لا يفكر في مواجهة روسيا، وللموضوعية فقد قال الرجل إنه “لا يوجد توافق على هذه المسألة” في أوروبا.
وبعد التصريح أطلقت أوصاف كثيرة على الرئيس الفرنسي من الأرعن والمتهور وحتى الأحمق والمجنون، كما اقتبس مستشار البنتاغون السابق دوغلاس ماكريغور، كلمات صديقه الضابط المتقاعد من الجيش الفرنسي، بأنه جيش “غير معدّ سوى لرحلات السفاري في شمال إفريقيا”، ورأى أن دول “الناتو” الأوروبية ليس لديها ما ترسله لمواجهة روسيا بأوكرانيا، وهو ما يبقي على الولايات المتحدة بمفردها، والولايات المتحدة أعلنت مرارا وتكرارا وتعلنها في جميع المناسبات وعلى جميع المنصات أنه ليس لديها أي رغبة في مواجهة مباشرة مع روسيا لا في أوكرانيا ولا في غيرها.
في رأيي المتواضع، أعتقد أن ماكرون يسعى بخبث ودهاء للبحث عن مخرج للأزمة التي تعيشها فرنسا بالدرجة الأولى، وأوروبا بشكل عام، ومع إدراكه، وإدراك قيادات وزارة الدفاع الفرنسية لاستحالة “هزيمة روسيا استراتيجياً في ساحة المعركة”، على حد تعبير صقور الاتحاد الأوروبي، ومع وعيه الكامل لأن استمرار التصعيد ضد روسيا سيحمل عواقب وخيمة ومدمرة لأوروبا، وستكون هزيمة “الناتو” مؤكدة، حتى لو نجح “الناتو” في تجنيد كل إمكانياته البشرية، والتي تبلغ نحو ثلاثة ملايين ونصف عسكري.
وفي ظل الفشل الذريع للهجوم الأوكراني المضاد برغم كل المساعدات العسكرية والاستشارية وحتى من خلال المرتزقة المقاتلين في صفوف القوات الأوكرانية، وعلى خلفية التقدم اليومي للقوات الروسية في إطار العملية العسكرية الروسية الخاصة، والخسائر الفادحة التي تلحق بالجيش الأوكراني، يعلن ماكرون “المشاركة بقوات من (الناتو)”، وهو ما يعني ضمنياً تورط “الناتو” فعلياً في المواجهة العسكرية مع روسيا، حيث أنه لا يمكن السماح لبوتين بإحراز النصر، وهو ما يعني أن الغرب يفكّر في اتخاذ خطوات لحماية نفسه، بعد القضاء النهائي على القوات المسلحة الأوكرانية، وفناء الدولة الأوكرانية. وذلك الهاجس يؤرق أيضاً كثير من العسكريين في أوكرانيا، فيما تنمو بين المواطنين الأوكرانيين مشاعر مشابهة، تعيد التفكير فيما آلت إليه الأمور، بعد سنتين من النهج المدمر الذي ينتهجه النظام النازي في كييف، ورفضه المطلق للتفاوض مع روسيا، على أمل تحقيق الوهم الأمريكي بقلب نظام الحكم في روسيا، والإتيان بنظام موالي للولايات المتحدة في موسكو.
أعتقد أن إحساس الهزيمة وخسارة المعركة قد تسرب إلى أفئدة الأوكرانيين، وأدرك كثيرون منهم أن الرهان على الغرب والولايات المتحدة، لا سيما في ظل شح الذخيرة والمساعدات، وإغلاق صنبور المساعدات الأمريكية من جانب الكونغرس، هو رهان خاسر، وأي تغيرات داخلية في روسيا هو سراب باعه الغرب من أجل استنزاف موارد روسيا وإضعافها على حساب أرواح المواطنين الأوكرانيين، ودمار مدنهم وقراهم. الغرب، من جانبه، بدأ هو الآخر يعي حقيقة أنه لا بد من الحفاظ على ما تبقى من أوكرانيا كمنطقة عازلة تفصل “الناتو” عن الحدود الروسية، وأصبح يدفع أوكرانيا نحو التفاوض مع روسيا، وإلغاء كافة القوانين التي تمنع ذلك، وهو ما يبدو صعباً في ظل القيادة الحالية.
لهذا بدأت أوروبا تضيق ذرعاً بزيلينسكي وجماعته، وتدفع نحو التخلص الفوري من النظام في كييف، وتصريحات ماكرون وحتى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تصب في هذا الاتجاه، حيث يعي هؤلاء تماماً أن المواجهة مع روسيا خاسرة، ويمكن أن تتسبب في تدمير دول “الناتو” في أوروبا، وتهدد باندلاع صدام نووي. هنا يصبح المخرج الوحيد لتفادي كل ذلك، وتفادي هزيمة “الناتو”، هو التخلص من النظام الحالي في أوكرانيا، وهو ما يتطلب التصعيد الذي يدق أجراس الخطر المحيق بالمواطنين الأوكرانيين، ويدفعهم نحو التخلص من هذا النظام من أجل التراجع عن كل ما تم التخطيط له ضد روسيا، والخروج بما تبقى من ماء الوجه، وما تبقى من أوكرانيا، عوضاً عن اختفائها من الوجود.
وقد كتبت أكثر من مرة في السابق أن أي مواجهة مباشرة مع “الناتو” ستضطر روسيا إلى إعلان التعبئة العامة، وهي ما تعني في روسيا أن يصبح تعداد الجيش 20 مليون عسكري.
لقد راهنت الولايات المتحدة الأمريكية، على مدى العقود الثلاثة الماضية، عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، على هيمنتها الكاملة على مصائر البلدان والأمم، وسيطرتها بدرجة كبيرة على مسار قرارات ومؤسسات هيئة الأمم المتحدة. وهيمنت الولايات المتحدة، طوال تسعينيات القرن الماضي، حتى على روسيا من خلال ضعضعة أوضاعها الداخلية، ومن خلال الثورات الملونة في محيطها، وبمساعدة عملاء ومستشارين وصلوا في وقت من الأوقات إلى أعلى مناصب القيادة الروسية (يعيش أغلبيتهم اليوم في الغرب).
اليوم، وبينما نرى خلخلة الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية، وبينما نرى تداعيات العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد روسيا، والتي بلغت حداً غير مسبوق في التاريخ، على تلك الدول، وعلى الوظائف، وعلى الناتج المحلي الإجمالي، وعلى الاقتصاد العالمي، عادت تلك الدول لتبحث عن مخرج، لا سيما أن روسيا، على النقيض، استفادت من تلك العقوبات، وعززت من أوساط الأعمال والاستثمارات الوطنية، ونهض الاقتصاد القومي، وأصبح من أقوى خمس اقتصادات حول العالم. لقد حشدت العقوبات، والعملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا الشعب الروسي وراء قيادته، وتضامنت الأمة الروسية في الحفاظ على تاريخها وسيادتها ووحدة أراضيها وهويتها وتقاليدها ودولتها الراسخة.
وكان حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في رسالته أمام الجمعية الروسية الفيدرالية 29 فبراير الماضي، موجهاً ليس فقط للرد على استفزازات بعض الزعماء الغربيين، والتصريحات الأمريكية بشأن الوضع في أوكرانيا، بل موجهاً، وبشكل أساسي إلى الشعب الروسي وشعوب العالم، بأن روسيا دولة نووية عظمى قادرة على حماية أمنها القومي بالدرجة الأولى، وكذلك على تأمين انتقال العالم من الأحادية القطبية، وأوهام الهيمنة الأمريكية إلى عالم التعددية القطبية، ولن تتسامح مع من يعرقل تحقيق أهدافها المتعلقة بالأمن القومي أو بالأمن الدولي أو بمسار العملية الانتقالية إلى أجواء دولية جديدة تضمن احترام سيادة جميع البلدان، ونظام اقتصادي وأمني عادل لا يخضع لهيمنة دولة أو تكتل ما.