“ذاكرة ملك” بوصلة الواقعية المنفتحة للملك الحسن الثاني مع الأحداث الدولية
مصطفى بوريابة /
يعتبر مؤلف “ذاكرة ملك”, مصدر دعوة متجددة للقراءة والتأمل في ثنايا الافكار والرؤى الثاقبة التي تعانق مجالات متنوعة, لتخترق مسافات زمنية, وتعرض وقائع مكثفة مرتكزة على حقائق معاشة, فهذا الكتاب الذي يأتي بعد كتاب (التحدي) الذي ألفه العاهل المغربي, يندرج ضمن ثقافة سياسية مكتوبة, مازالت نادرة في العالم الثالث, يبلورها صانعو القرار من خلال مساهمتهم المباشرة, وشهاداتهم في بعض القضايا التي كانوا صانعيها أو شاهدي اثباتها.
ويعتبر”الملك الراحل الحسن الثاني ” من القادة السياسيين, ورجال الدولة من الطراز الرفيع, و كانت له ثقافة واسعة، واسهامات شخصية في هذا المجال ، جعلته من القادة العرب النادرين الذين تركوا بصماتهم من خلال خطبه التي تميزت بالفصاحة والتفاعل مع كل مناحي الفكر السياسي والاقتصادي والثقافي .
ومن خلال كثافة وثراء المجالات والقضايا المطروحة في هذا الكتاب، ومن ثم فان هذه الكثافة تتوسم استشفاف بعض العناصر الكفيلة برصد تصور العاهل المغربي الراحل لمجال الممارسة الخارجية.
ويحتوي مؤلف “ذاكرة ملك”على تسعة فصول من بين تسعة عشر فصلا لقضايا تهم المحيط الخارجي للمملكة المغربية، دون تجاهل الاشارات المرتبطة بهذا المجال، والتي تضمنتها الفصول الاخرى المتعلقة بالقضايا الداخلية، وهو امر يؤكد التداخل العميق بين ما هو داخلي وما هو خارجي، و يرتبط أيضا بتجربة “الحسن الثاني ” الطويلة والعريقة في ميدان السياسة والممارسة الخارجية، حيث ان ذاكرته بدأت تتفاعل مع هذا الحقل الواسع، وهو مازال شابا يافعا لم يتجاوز 14 سنة، عندما مأدبة عشاء، إلى جانب والده محمد الخامس في الدار البيضاء في فبراير 1943، شارك فيها الرئيس الامريكي “روزفلت “ورئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل”.
و منذ تسلمه للسلطة سنة1961 نهج أسلوب متميز باتباع نهج والده”الملك الراحل محمد الخامس” .
وفي هذا الكتاب يشير “الملك الحسن الثاني ” إلى القرارات المهمة التي اتخذها, والتي لا تشكل امتدادا لسياسة والده، وتتعلق بالسياسة الخارجية. حيث بدأ ينهح سلوكا مستقلا عن بعض مواقف الدول العربية وبلدان الشرق الاوسط (ص 43) و ظهر ذلك في مشاركته في أول مؤتمر لقمة دول عدم الانحياز، الذي انعقد في “بلجراد” والذي طالب فيه بضرورة التفريق بين عدم “الانحياز” وعدم “الالتزام”، حيث قال: “انني ملتزم نحو عدد من الشركاء، لكن إلى الحد الذي لا يمس سيادتي وينقص حريتي في الاختيار، وانا اذا تجاوزت حرية اختياري وفرضت على نفسي مواقف البلدان التي انا ملتزم معها،فانني اؤول إلى الانحياز”. (ص 43)
انطلاقا من هذه الجملة يظهر لنا طالع الواقعية والحوار اللذان طبعا الدبلوماسية المغربية في تصورها ومعالجتها للقضايا الخارجية بطابع الاعتدال والواقعية المتفتحة بالرغم من شيوع مفهوم الواقعية وسيادته في العلاقات الدولية, وفي التحليل السياسي منذ عهد المؤرخ الاغريقي (توسيديد) وانتهاء بالواقعيين المعاصرين وعلى رأسهم ماكس فيبر, فإنه لا ينم عن تصور وحيد للأشياء, فكثيرا ما ارتبط هذا المفهوم عند المهتمين بعامل وحيد، أو مفتاح، كما هو الأمر عند رائد الواقعية الامريكية “هانس مورجنتاو” الذي يربط الواقعية بالمصلحة ، حيث قال: “لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة بل مصلحة دائمة”.
وتعبر الواقعية في كتاب “ذاكرة ملك”عن رؤيا متفتحة تدمج في ثناياها مجموعة من المعطيات تستقطب موقع وتراث ومصالح المغرب، كونها تأخذ بعين الاعتبار المعطى الجغرافي، حيث ما فتىء العاهل الراحل يذكر بمقولة مؤسس ألمانيا “بسمارك”، الذي اعتبر ان الجغرافيا هي العنصر الثابت في السياسة.
وهذه الحقيقة تأكد أنه من الصعب المساس بالعنصر الجغرافي الذي يفرض على الدولة أوضاعا معينة، من بينها أن الانسان لا يمكن أن يختار الجيران، بل أن الجغرافيا هي التي تحدد ذلك.(ص 83) .
و يقول الملك الراحل: “ليس بامكاني تغيير موقع كل من المغرب والجزائر، ويجب ان يتذكر المغاربة والجزائريون دائما انهم لن يقدروا على تغيير موقع بلديهما”،وفي الوقت نفسه فإن التباعد الجغرافي يحول دون خلق مباشر في وضعية طرف آخرو حسب نظره، اخفاق المحاولات التي تمت من هذا الطرف أو ذاك للتأثير في النظامين الليبي والمغربي) . ص (88).
واذا كان الواقع الجغرافي بهذا العناد، فإنه من الحكمة العمل على التعايش مع الجيران وتفضيل الطرق السلمية لحل الخلافات معهم، كما تجلى ذلك في التعامل مع النزاع الجزائري المغربي في سنة 1963.
وردا على اقتراح العسكريين المغاربة تنظيم هجوم كان من شأنه ان يتيح توغل القوات المغربية في الصحراء، قال العاهل الراحل مخاطبا اياهم: “ان ذلك الهجوم لن يجدي نفعا. فأنا انطلق من مبدأ ان الانسان عندما يحارب أحدا، فإنما يفعل ذلك ليعيش معه في سلام على امتداد جيل على الأقل. فإن لم نكن متأكدين من ان السلم سيحقق طيلة ثلاثين عاما بعد الانتصار على الخصم، فإنه من الافضل تجنب القيام بعملية عسكرية، والا كنا قد شوهنا الحاضر وعرضنا المستقبل للخطر، وتسببنا في مقتل الأبرياء وصرفنا الأموال لنعيد الكرة بعد أربع أو خمس سنوات”، و من الخطأ المراهنة على مشاكل الجيران لتحقيق الامتيازات: “لقد اعتقدت دائما انه ليست لي أية مصلحة في ان يصاب جيراني بالحمى, كما انه ليس من مصلحتهم ان يصاب المغرب بمرض”. (ص 84).
ومن خلال هذا التصور السليم الذي ينبني على قناعة راسخة بأن الاعتماد المتبادل بين الدول يعكس بدرجة كبيرة وضعية دولة ما على جيرانها، و أحبانا تكون مشاكل دولة ما, ومصاعبها مصدر قلق، وفي بعض الاحيان منطلق عدوى لا تنجو منها الدول المجاورة.وفي المقابل، اذا كان الاتزام بقواعد حسن الجوار، ينعكس ايجابا على جيرانه، ويشكل عامل دفع واشعاع لاقتصادياتها.
و عرف الملك الحسن الثاني بهذا المنطق، حيث كان يتعالى على الواقعية كما مثلتها “البسماركية” التي ركزت على بناء ألمانيا موحدة ومهيمنة، من خلال اضعاف الجارة فرنسا واذلالها.
فإن هذه الواقعية المنفتحة تأخذ بعين الاعتبار، وبدرجة أساسية المصالح الحيوية للمغرب، و كان يقول “الحسن الثاني”دائما: “أنا رجل مبادىء ولست رجل مواقع” . (ص 21) ومعنى هذه الجملة انه اذا لم يكن من الممكن اعادة النظر في مبادىء رجل المبادىء، فإنه من الممكن التخلي عن موقف ما اذا تبين أنه لا يجدر الاستمرار في الدفاع عنه، ومن ثم لابد من تغيير الاسلوب، وقد تجلت هذه الحقيقة بشكل واضح أثناء توقيع “معاهدة الاتحاد العربي الافريقي” مع قائد الثورة الليبية “معمر القذافي” في 13 غشت 1984.
وبرر “الحسن الثاني “هذا العمل الذي اصطدم بمعارضة من طرف الغرب المناوىء للزعيم الليبي, بقوله: “كان أبنائي يتعرضون آنذاك لقصف مدفعي أحدهما جزائري والثاني ليبي. وكان من أوجب واجباتي اسكاتهما فبتوقيع هذه المعاهدة تمكنت من جعل “القذافي” محايداً، وحصلت على التزامه لي بعد الاستمرار في تقديم ادنى مساعدة لأعدائي وللبوليزاريو.. وكان الامريكيون بالخصوص هم الذين آخذوني كثيراً على ذلك، لكني قلت لهم اسمعوا ان الاطفال الذين يقتلون في بلدي ليسوا أبناء ويومينج او كونتيكوت, انهم مغاربة” .
و تتعزز هذه الرؤية الواقعية المتفتحة لحقائق السياسة الدولية, بخط آخر ينبثق عنها ويوجهها في الوقت نفسه، ويتمثل اساساً في تغليب اسلوب الحوار والاقناع بدل المواجهة والصراع، واذا كان هذا الخط الموجه، قد تبين لنا في تعامله مع النزاع المغربي الجزائري، وفي تدبير ملابسات قضية الصحراء المغربية، فإنه يتجلى بشكل واضح في تعامل “الملك” الراحل مع تطورات الصراع العربي الاسرائيلي حيث ان منظوره اتسم منذ البداية برؤية واقعية تتمحور حول حيوية التضامن العربي، والذي جسده من خلال مبادرات ملموسة كما هو الامر بالنسبة لارسال فرقة عسكرية شاركت في حرب اكتوبر 1973 الى جانب القوات السورية، ولكن في الوقت نفسه ضرورة نفض الاوهام وتفضيل أسلوب التفاوض والاقرار بواقع الآخر، أي دولة اسرائيل .
وفي سنة 1959 قام “الحسن الثاني بزيارة لبنان تحدث من هناك قائلاً:”الخلاصة أن العرب لن يفلحوا أبداً في تسوية هذا المشكل، فأنا لو كنت مكانهم لاعترفت باسرائيل وأدمجتها في حظيرة جامعة الدول العربية”وأمام تعالي صيحات المثقفين الحاضرين أضاف “الملك” الراحل “بطبيعة الحال, ومهما يكن من أمر فإنها دولة لا يمكن ان تضمحل”(ص151).
وفي سنة 1965 انعقد مؤتمر القمة العربي بالدار البيضاء، وأمام تردد القادة العرب في الاتفاق على موقف واضح من هذا الصراع مع اسرائيل قال” الملك الحسن الثاني”:”اسمعوا ليس هناك الا حل واحد من حلين: اما ان نتفاوض من اجل تعايش سلمي, ولا أخفي عليكم أنني افضل هذا الخيار, واما أن نستغل عدم وجود تفوق تكنولوجي كبير لفائدة اسرائيل، ونهاجمها، فإذا كنا لا نريد التفاوض من أجل التعايش فلا داعي لان نضيع وقتنا فلنبادر الى الهجوم بجيش قوامه 100 مليون فرد، حتى ولو كان مسلحاً بالعصي” .
وتبعاً للتقاليد المغربية المتجذرة التي جعلت اليهود والمسلمين يعيشون على الدوام في وئام وتفاعل، لم يجد العاهل المغربي الراحل اية مشكلة في لقاء بعض الزعماء اليهودية الذين عبرو عن موقفهم وتفهمهم للمطالب العربية والفلسطينية بالأساس، وفي مقدمتهم “ناحوم جولدمان” رئيس “المؤتمر اليهودي العالمي”، الذي كان من بين الموقعين على اعلان المطالبة باعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ابان الغزو الصهيوني للبنان، الى جانب الزعيم الفرنسي المعروف “بيير مانديس فرانس”, ورئيس المؤتمر اليهودي الامريكي “برونمان”, فهذه الرغبة في الالتقاء والتحاور لم تكن مطلقة، بل كانت تستهدف ربط قنوات التواصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين ومن ثم فان “الملك الراحل” لم يرحب بالالتقاء ببعض المتشددين الناكرين للحقوق العربية المشروعة، كما هو الامر بالنسبة لرئيس الوزراء الاسرائيلي السابق “بنيامين نتانياهو”, الذي مارس سياسة التعنت واللامبالاة بالحقوق.
و اصطدمت جرأت الملك “الحسن الثاني “بمعارضة في بعض الاوساط العربية التي كانت تروج لخطاب الرفض والاستبعاد، ولكن في الوقت نفسه لم تكن تتردد في اجراء اتصالات سرية، أو انها لم تجد مناصاً من الاقرار بهذه الحقيقة، و بعد تبديد الكثير من الوقت والفرص، قد كشف بالملموس عن صوابية ومصداقية هذه الجرأة وهي تأكد في كل الاحوال ان التحاور والتفاوض من منطلق التشبث بالمبادىء والوضوح والشفافية و يخدم القضايا العادلة للأمم والشعوب، ويوفر الكثير من الخسائر غير الضرورية.
وختاما يمكن القول: بأن الواقعية والحوار, اللذين انتهجهما العاهل “الحسن الثاني”رحمه الله , طبع سياسة بلاده الخارجية بطابع الاعتدال، وتجنب وسائل العنف، والجنوح نحو السلم والحوار كلما استطاع الى ذلك سبيلاً، دون التضحية بالمبادىء والمصالح الحيوية للبلاد، ولاريب في أن الواقعية والحور سيجدان استمراريتهما مع الملك الجديد “محمد السادس” الذي نراه يمشي على طريقة أبيه منذ توليه العرش .