يحكي السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في مذكراته باستنكار شديد، كيف أن الكتاب الأوربيين يشيرون إلى ظاهرة استشراء “الهدايا” في الإدارة العثمانية، ويذكرون أن “الهدية” أضحت في مستوى أعلى من السلطان نفسه، حتى سماها أحد الفرنسيين بـ “السلطان هدية”، ليصف عبد الحميد الثاني هذا الكلام بالمبالغة ويرد عليه بالقول إن “الغربيين لا يفهمون المعنى الكامل للهدية، إنهم يعتبرونها لاأخلاقية كالرشوة مع أنها حوادث نادرة”، قبل أن ينفي وجود مثل هذا السلوك من الأساس في إدارته ولدى موظفيه.
هذا الكلام، يعود إلى حقبة كانت تسمى فيها الدولة العثمانية بـ “الرجل المريض”، ولعل أحد أشد أسباب علتها فداحة، هو انتشار الفساد في أقبيتها ودواليبها، حيث الهدية أو الرشوة أو “البقشيش“، جزء يسير فقط من سلطة الفساد التي تعدت سلطة “الأستانة” نفسها.
إن الفساد عندما يتطور في مجتمع ما، قد يتحول فعلا إلى سلطة حقيقية، تتجاوز كل السلط المتعارف عليها، فيسيطر بطريقة سرية في غالب الأحيان، وعلنية في أحيان أخرى، على كل مناحي الحياة، ما ينتج عنه على المستوى الاقتصادي مثلا، سوء توزيع الموارد لدى الدول، وتقليل فرص الاستثمار، وتقويض أسس الكفاءة والمنافسة، مع تقليل الإنتاجية وإحباط الرغبة في الابتكار، ومضاعفة الإنفاق العام، وتقوية نفوذ المؤسسات الكبرى وتعزيز فرص احتكارها للأسواق.
في مجال الإدارة والسياسات العامة، يساهم استشراء الفساد في انتهاج سياسات غامضة ومرتبكة، ووضع العراقيل أمام المواطنين تحول دون الوصول إلى الاستفادة المتكافئة من الخدمات الأساسية، ليمتد تأثيره إلى التعليم، والصحة والإعلام، والرياضة، والإدارة والوظائف، حتى أنه يعيق التوجه نحو الإصلاح الديمقراطي، بمساهمته في نشر اليأس وضمور المشاركة السياسية.
إن الفساد بلغة أخرى، سلطة تتحدى القانون، لتفرض قانونها الخاص، بشكل عدائي تجاه كل ما هو وطني وشعبي وإنمائي، فضلا على أن ممارسة الفساد هي رغبة في إرساء قواعد كابحة للتقدم، والإبقاء على استدامة التخلف والاستفادة من هوامش الانحراف التي ينتجها، ما يدفعنا للقول بإطلاق، إن الفساد عدو للمستقبل.
قبل أشهر، طفحت في المغرب قضية مباراة المحاماة، واعتبر المتتبعون آنذاك الأمر مفاجأة ترقى إلى درجة الفضيحة، بينما حقيقة الأمر أن ما رشح كان جزءا يسيرا فقط من نقاش ظل حاضرا ولن يتوقف حول أخطبوط الفساد والمحسوبية والزبونية الذي يرخي بأذرعه على كل مجالات الإدارة والتسيير في بلادنا، لذلك فهو لم يكن مفاجأة ولا يشكل صدمة أبدا، لأننا نعيش في مجتمع يشكل فيه الفساد أسلوبا في تدبير كل شؤوننا، بل تحول إلى سلطة تتحكم في باقي السلط والعلاقات التي ينبغي أن تؤطر المجتمع في حالاته السوية.
في حالة المباريات المؤدية إلى تقلد الوظائف، يحجم العديد من الباحثين عن الشغل عن ولوجها بسبب تشكل قناعة لديهم بأن المباريات مجرد إجراء شكلي وأن لائحة الناجحين معدة سلفا، قد لا يكون الأمر صحيحا تماما، ولكن هذا هو الانطباع العام المتولد عن تجربة أبناء المجتمع في مواجهة لوبيات الفساد والرشوة والغش، والواقع العيني يؤكد ذلك بشتى الصور، وما مباراة المحاماة المذكورة سوى أحد الأمثلة التي تفتح باب الأسئلة الحائرة والمتطايرة مشرعا: ما هو الانطباع الذي تتركه مثل هذه الحالات لدى الأجيال المقبلة ؟ هل هذه الصور النمطية المشينة هي ما نتوخى أن يحمله أبناؤنا عن مستقبلهم وهم في طريق التحصيل العلمي والأكاديمي؟ ثم ما قيمة الإنجازات التي تحققها بلادنا إذا كانت تواجه كل مرة بتراجعات تقودها إلى مربع البداية؟.
الحقيقة هي أننا نعيش في مجتمع تحتل فيه الكفاءات الصفوف الخلفية المتوارية خلف كل أنواع الامتيازات والمصالح الخاصة، ولذلك فنحن نميل بشكل يعتبره أغلبنا اعتياديا وجار به العمل إلى البحث في كل مناسبة نحتاج فيها الولوج إلى أي خدمة أو مجال عن أقصر السبل وأيسرها وأكثرها ضمانا للوصول إلى مآربنا.
يبحث الكثير منا مثلا من أجل الاستفادة من خدمة إدارية أو غيرها عن وسيط قد يكون من رجال السلطة أو الإدارة لتبسيط المساطر والقفز على الإجراءات وتنفيذ الخدمات دون عناء أو انتظار او اضطرار إلى سلك مسالك الإدارة الطويلة والمملة والمضنية، وإذا لم يوجد هذا الوسيط بين معارفنا أو أصدقائنا أو عائلاتنا نصنعه من خلال ما قد نمتلكه من مال أو غيره من القيم العينية لشراء ذمة مسؤول هنا أو هناك.
هناك حالات أخرى أكثر خطورة تتعلق بالطرق التي يتم من خلالها تصريف الصفقات العمومية في مثال آخر، فقد لا يكفي المقاول أن يتوفر مشروعه على كافة المواصفات والمعايير اللازمة لإقامة مشروع معين، ففي أغلب الحالات يتعين عليه وضع ظرفين أحدهما ظرف المناقصة للفوز بصفقة المشروع، وثانيهما ظرف خفي يحتوي على أدوات الفوز غير المشروع بإنشاء المشروع، وينتج عن هذا أن كل مقاول دفع المال مقابل إنجاز ورش معين يصبح مسكونا بهاجس استرجاع ما دفعه رشوة من قيمة الإنجاز فيجد نفسه مدفوعا إلى الغش في المواصفات أو مواد البناء أو حاجيات الاشتغال أو القيمة الدوائية أو القيمة الغذائية، فتكون النتيجة أن تقام طريق معبدة اليوم لنجدها قد تحولت في الغد إلى ركام وسلسلة من الحفر التي تؤشر إلى الغش الفاحش، وأن نسمع بين الفينة والأخرى عن صفقة دم فاسد أو دواء فاسد أو غذاء فاسد، ويقاس على هذا حالة كل مشروع سواء في التجهيز أو الطرق أو الصحة العامة أو غيره مما نراه يوميا من مظاهر الإهمال وغياب روح المسؤولية وانعدام الضمير المهني التي لا يكاد يسلم منها مجال.
تعبر هذه الأمثلة من السلوكات الشائعة عن انعدام الثقة في الحصول على الحقوق دون تدخلات خاصة، ومن ثم تتولد القناعة الفردية والجماعية على أن تحصيل الحق ينبغي أن يقابله الدفع أو الواسطة، كما أن الصورة العامة توحي للمجتمع بأن السلوك الفاسد هو الأصل ما دامت العديد من الحالات يتم فضحها دون أن تلقى أي متابعة أو عقاب إلا في ما ندر، ما يعني أن الإفلات من العقاب هو نوع من التشجيع على ارتكاب المزيد من الخروقات.
لن نعرج هنا على مجالات عديدة للفساد في القضاء والسياسة والإعلام وغيرها، فقد مارسنا التطبيع مع الفساد منذ زمن بعيد، حتى وإن سجل المجلس الأعلى للحسابات العديد من الحالات في تقاريره السنوية وعرضت أمام المحاكم حالات أخرى، حتى وإن رصدت منظمات الشفافية وحقوق الإنسان الرسمية وغير الحكومية عديد الحالات سنويا، مادام الأمر لا يستتبعه دائما تحرك حقيقي في اتجاه ضرب أسس الفساد.
محاربة الفساد جزء لا يتجزأ من معركة التنمية، إذ لا تحقق للتنمية المنشودة ولا للديمقراطية دون تعزيز سيادة القانون الذي يسري على الجميع دون تفضيل أو تمييز، وتمنيع المؤسسات بالحكامة الرشيدة القائمة على المبدأ الذي أقره دستور 2011، ربط المسؤولية بالمحاسبة، غير هذا فسنبقى نلوك الشعارات تلو الشعارات في هدر مزمن للزمن وتضييع للفرص الكبرى من أجل تحقيق التقدم والإقلاع الذي نحلم به جميعا، ونحن في بلد يستطيع فعل الكثير حقا من أجل التحول إلى قوة حقيقية، فالمغرب يملك كل إمكانيات النهوض والارتقاء.
سألت يوما أحد أصدقائي وهو أستاذ جامعي مرموق، عن سر تهافت المغاربة باختلاف طبقاتهم على شراء الشقق والتوفر على أملاك عينية بحسب القدرة والإمكانيات، حتى وإن كلف هذا الشراء قروضا مجحفة وشروطا دنيا للحياة، أجابني أن الخوف من المستقبل يشكل هاجسا لدى العائلات المغربية، وأن السكن هو أحد مدخلات الحفاظ على الكرامة في ظل تراجع الدولة عن الإيفاء بواجباتها تجاه توفير الخدمات المجانية الملائمة للعيش الآدمي في مجالات الصحة والتعليم والسكن، كل رب أسرة لدينا هو حتما مهموم بهاجس توفير السكن لأبنائه حتى لا يضيعوا من بعده لعلمه يقينا بأن الدولة لا توفر أي ضمانات ولا تتكفل على المستوى الاجتماعي بمواطنيها المتواجدين في حالة صعبة، فلا وجود لنظام للتعويض عن انعدام الشغل أو السكن أو الإمكانيات المادية الكبيرة التي يتطلبها التطبيب، ولا وجود لتكافؤ الفرص في مجال التشغيل سواء كان عموميا أو خاصا، فضلا عن خدمات أخرى توفر الحد الأدنى من كرامة العيش، على الرغم مما تتبجح به حكوماتنا من امتلاكها لمشاريع وحلول لمعضلاتنا الاجتماعية، والتي تبقى مشاريعا وحلولا ترقيعية وضعيفة لا تفي بالغرض مهما تطاولت بذكرها الأغلبيات المتعاقبة، وافقت صاحبي رأيه المر، وأكملنا طريقنا وكل واحد منا يناقش صامتا في مونولوج داخلي ما لم يعبر عنه من أفكار ظلت حبيسة الرقيب الذاتي الذي يرافقنا كل وقت.
ومع ذلك سنظل نردد أن مغربا آخر ممكنا لعيش أفضل هو رهن توفر الإرادة، ومتى توفرت الإرادة وضعنا الأجيال القادمة على سكة التطور، وجنبنا أبناءنا هاجس الخوف من المستقبل والارتماء في المجهول حتى لو كان هذا المجهول قارب موت يحمل آمال النازحين من البر الذي يفترض أن يكون آمنا إلى بحر متلاطم غامض المصير، ومن لا بر له لا بحر له.