نشيخ من الخذلان لا من الزمن…!
تتسلل الأيام من بين أصابعنا كحبات رمل دقيقة، تخبرنا بأن الزمن لا ينتظر أحدا.. ها نحن نقف، محصورين بين ذكريات الماضي وأحلام المستقبل، بينما الحاضر يفر منا كطائر خائف. في هذا الصمت الممتد، يرقد الحزن بثقله على صدورنا، يغرقنا في بحر من النوستالجيا عن أيام كانت السماء أكثر زرقة والضحكات أعلى صوتا
في زحمة الحياة وتقلباتها، يغفل الكثيرون عن حقيقة أن الشيخوخة ليست مجرد تغيرات جسدية تعتري الإنسان مع تقدم العمر، بل هي رحلة أعمق بكثير تتشكل في أعماق الروح وتنسج خيوطها في دواخل القلوب. نعم، نشيخ حقا عندما تموت الأحلام فينا، وعندما يفقد الطفل الذي بداخل كل منا صوته بين جدران صدورنا.
نشيخ بسرعة لا تتناسب مع عقارب الساعة عندما نرى الطيبة والبراءة فينا تداس تحت أقدام الخيانة والخذلان في حادث ثقة من قبل أولئك الذين نحبهم . هذه العملية القاسية تحول القلب النابض بالحياة إلى قطعة من الجليد، تتزايد صلابتها مع كل خيبة أمل وكل غدر يمر عليها. تتحول الألوان الزاهية للوجود إلى درجات من الرمادي الممل، وتصبح الأيام متشابهة، كأنما الزمن قد توقف أو ربما تخلى عنا.
ولعل أقسى أنواع الشيخوخة تلك التي تحدث للروح. تلك التي لا يمكن للكريمات المضادة للشيخوخة أن تعالجها، ولا حتى أكثر الأدوية تطورا، نشيخ روحيا عندما نفقد القدرة على الإحساس بالأمل والتفاؤل، وعندما تخبو شعلة الشغف التي كانت تضيء قلوبنا وتمدنا بالطاقة والحيوية.
في هذا المشوار الصعب، يصبح الاعتراف بأننا نشيخ قبل الأوان شكلا من أشكال الشجاعة والبصيرة. إنه الخطوة الأولى لمحاولة استعادة ما فقدناه من طيبة وأحلام وبراءة. يتطلب الأمر جهدا جبارا لاستعادة الشغف بالحياة وإعادة إيقاظ الطفل النائم داخلنا الذي لم يعد يجرؤ على الصراخ أو حتى الهمس.
في كل واحد منا يسكن طفل، طفل لم يتعلم بعد كيف يودع الأحلام البريئة. يحمل ذلك الطفل بداخلنا لواء الأمل، يقفز ويلعب في دواخلنا، يذكرنا بأن العالم كان يوما ملعبا واسعا كل شيء فيه ممكن. هذا الطفل، بعفويته وتفاؤله، يتحدى الزمن الذي يبتلع الأيام، يتحدى الواقع الذي يتسم بالجمود والثبات.
مع كل نبضة قلب، مع كل لحظة تمر، يتساءل هذا الطفل: لماذا نسمح لأنفسنا بالوقوف مكاننا؟ لماذا نكبت الرغبات ونحبس الأحلام في صناديق الواجب والالتزام؟ ينادينا ذلك الطفل من بين زحمة الحياة، يطالبنا بأن نعود ونلعب مرة أخرى، أن نعود ونحلم مرة أخرى.
يظل ذلك الطفل الذي بداخل كل واحد منا حيا، يرفض الاستسلام للكبرياء والجدية التي يفرضها العالم الخارجي. هو البراءة التي لا تتلاشى، والفرح الذي لا ينضب. لم يتعلم بعد كيف يتخلى عن الأحلام البريئة ولا كيف يتوقف عن السعي وراء الفرح. هذا الطفل الذي يملأ قلوبنا بالأمل والشغف، يدعونا لنكسر قيود الروتين ونتحرر من القوالب الجامدة التي تحاصرنا
هذا الطفل بداخلنا هو صوت الأصالة الذي يرفض أن يكون صدى، هو دعوة لاستعادة العفوية واحتضان الحياة بكل ما فيها من مغامرات. لنستمع إليه، لنعطيه الفرصة ليقود خطانا. ربما في ذلك نستعيد بعضا من الوقت الذي ظنناه ضائعا، ونتعلم كيف نعيش اللحظة بكل ما تحمله من جمال وسحر قبل أن تفلت منا إلى الأبد.
فلنستمع لنداء الطفولة الخالدة التي تسكن في دواخلنا، تلك التي ترفض أن تكبر، تلك التي تحتفظ بالفرح كنزا لا يفنى. ربما، في تلك الاستجابة، في ذلك الاستسلام للعفوية والحرية، نجد مفتاح الزمن الضائع ونتعلم كيف نمسك اللحظة الحاضرة قبل أن تتلاشى.
لكن في النهاية، تلك هي رحلتنا جميعا في هذا العالم. رحلة تتخللها الأفراح والأحزان، البدايات والنهايات. ولعل في استعادة روحنا وقلوبنا قدرًا من الرجوع بالزمن لنجد أنفسنا مرة أخرى، شبابًا في الروح، متجددين في الأمل، وأغنياء بالأحلام
إن العمر يجري بنا كما يجري النهر بمياهه نحو المحيط، لا يعرف الوقوف أو الانتظار. نقف نحن هنا، في رحلة حياتنا، محملين بأثقال الأمس ومشغولين بأحلام الغد، بينما ينزلق اليوم من بين يدينا كسحابة صيف عابرة. الحزن، ذلك الرفيق الثقيل، يستوطن أعماقنا، يغزو صمتنا بأصداء ذكريات لا تهدأ، يذكرنا بأننا كلما ازددنا عمرا، ازدادت اللحظات التي نتمنى لو عدنا إليها.