من ملائكة السماء إلى شياطين الأدب..السرد القرآني بين الكلمة والقصة
إعداد: حنان الطيبي
في بحر لجي واسع من الكلمات والحكايات، يبرز القرآن الكريم كجزيرة مضيئة تنثر أنوار الحكمة والمعرفة على شواطئ الأدب العربي. ليست مجرد آيات تتلى، بل قصص تحاكي الوجدان وتتغلغل في أعماق الروح، تختزل في طياتها حكايات الأنبياء والملوك والأمم، كلها تسرد بأسلوب فريد يتخطى حدود الزمان والمكان؛ هذه الروايات، التي كتبت لتكون هاديا للإنسانية، لم تقتصر على الإرشاد الروحي والأخلاقي فحسب، بل امتد أثرها لتشكل أركان الأدب العربي، لتصبح منبع إلهام يفيض بالأساليب السردية والجماليات اللغوية.
من التكثيف الأدبي إلى التشويق القصصي، ومن الحوار العميق إلى التكرار المؤثر، يقدم القرآن الكريم تقنيات سردية ثرية لا تزال تدرس وتحلل حتى يومنا هذا، هذا البحر الذي لا ينضب، كيف أثر في مجرى الأدب العربي؟ وكيف تمكنت قصصه العميقة من تشكيل وعي ومخيلة الشعراء والأدباء عبر العصور مظهرا القوة الخالدة للكلمة والقصة. إنه دعوة مستمرة للتأمل والتفكير، لاستكشاف الذات والعالم من حولنا، وتحفيزا لإبداعاتنا الأدبية والفنية.
يعد السرد القصصي في القرآن الكريم مجالا خصبا وعميقا للدراسة، فهو لا يقتصر فقط على الرواية التاريخية أو الدينية بل يتعدى ذلك إلى تقديم نماذج للسلوك الإنساني والمعاني الأخلاقية العميقة مع استنباط العبر والمواعظ واستخلاص خلاصة التجارب الروحية والإنسانية مع التدبر في عصارة كل تجربة على حدة بإيجابياتها وسلبياتها..؛ هذا الأسلوب القصصي الذي تبناه القرآن الكريم قد أسهم فعلا وبشكل كبير في إثراء الأدب العربي وتطوره عبر العصور، كما يمكن القول إن السرد القصصي في القرآن الكريم لم يكن مجرد وسيلة لنقل الرسائل الدينية والأخلاقية فحسب، بل كان أيضًا مصدر إلهام قوي للأدب العربي، ساهم في تشكيله وتطوره عبر الزمن، وأثرى الحضارة الإنسانية بقيم ومعاني تتجاوز حدود الزمان والمكان.
تقنيات السرد القصصي في القرآن:
التكثيف والإيجاز: يعتمد القرآن على تقنية التكثيف في السرد، حيث يقدم القصص بشكل موجز دون الإطالة في التفاصيل غير الضرورية، ما يجعل القصة أكثر تأثيرا ويسهل تذكرها.
التشويق والإثارة: يستخدم القرآن أسلوب التشويق في السرد، بحيث يثير اهتمام القارئ ويحفزه على التفكير والتأمل في الأحداث والعبر المستخلصة منها.
التكرار: يعمل التكرار على تعزيز الرسائل والمعاني الهامة في القصص القرآنية، ويساعد على تثبيتها في أذهان القراء.
الحوار: يعتبر الحوار في القصص القرآنية وسيلة فعالة لتقديم الشخصيات والأفكار، ويساهم في جعل السرد أكثر حيوية وإقناعا.
الاستفهام: يستخدم الاستفهام في القرآن لدفع القارئ إلى التفكير والتأمل، وهو يعمل كأداة لتعزيز التفاعل مع النص.
أثر السرد القصصي في القرآن على الأدب العربي:
تطوير النوع القصصي: السرد القصصي في القرآن شكل نموذجا رفيعا أثر في الأدب العربي، مما أدى إلى تطور واضح في فن القصة وأساليب السرد.
إثراء المحتوى الأدبي: قدمت القصص القرآنية ثروة من الموضوعات والشخصيات التي استلهم منها الأدباء والشعراء في أعمالهم.
تعزيز البعد الأخلاقي والروحي: الأدب العربي تأثر بالقيم والمبادئ الأخلاقية والروحية التي تناولتها القصص القرآنية، مما أثرى البعد الأخلاقي في الأدب.
تنوع الأساليب السردية: استلهم الأدباء العرب من الأساليب السردية المتنوعة في القرآن، مما أسهم في إثراء تقنيات السرد الأدبي.
في أعماق السرد القصصي بالقرآن الكريم وتأثيره البالغ على الأدب العربي، نجد أنفسنا على شاطئ معرفي جديد، أكثر غنى وتنويرا. لقد تجاوزت القصص القرآنية كونها مجرد نصوص تتلى؛ بل أصبحت منارات تضيء دروب الفكر والأدب، محفزة العقول على التأمل والقلوب على الإحساس. إن الغوص في أعماق هذه الروايات كشف لنا عن تقنيات سردية رفيعة المستوى وجماليات لغوية فريدة ساهمت في صياغة الوجدان العربي وأثرت في تطور مسار الأدب عبر العصور.
في نهاية المطاف، يبقى القرآن الكريم كتابا لا ينضب عطاؤه، وبحرا لا تجفّ مياهه، يغمرنا بالحكمة والمعرفة والجمال. وكل قصة فيه تُشبه بذرة تنمو في أرض خصبة، تتفتح أزهارها في قلوبنا وعقولنا، تاركة أثرا لا يمحى. وكأن القرآن يدعو كل منا، بغض النظر عن عصره أو مكانه، ليكون راويا في مسيرة الحياة، مستلهما من قصصه الأبدية، ليكتب قصته الخاصة، قصة تضيء الطريق المظلم وتوهج الطريق المستنير.