وصلت الجزائر إلى السقف بعد إصرارها على افتعال معارك رياضية حول “الخريطة المغربية”، أو ما أطلق عليه اسم “أزمة القمصان”، من أجل تحقيق نتيجة إيجابية لمصلحة عقيدتها المناوئة للمغرب ووحدة أراضيه، عبر الانسحاب من البطولة العربية السادسة لكرة اليد للشبان، وبطولة أمم أفريقيا للجمباز، وقبلهما مباراة كأس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم أمام فريق “نهضة بركان” المغربي.
استعملت الجزائر أساليب لا يتصورها عقل أو منطق، وقد ظهرت شواهد كثيرة تعبر عن ذلك، ولم يظل بالتالي أمامها سوى المجازفة بدخول حرب مع جارها الغربي. فعندما تغيب الحكمة، لا سيما في قضايا رياضية، ويصبح التشنج سيد الموقف، يبقى كل شيء جائزاً ومباحاً وممكناً.
ثمة مقولة للجنرال والمفكر الاستراتيجي البروسي (الألماني) كارل فون كلاوزفيتز، إن الحرب “هي امتداد للعمل السياسي بوسائل أخرى”، لا بد من التوقف عندها.
تركت كتابات كلاوزفيتز حول التكتيك والاستراتيجيا آثاراً عميقة في المجال العسكري في البلدان الغربية، كما أن أفكاره تُدرّس في العديد من الأكاديميات العسكرية.
ولعل الكثير من قادة الأمم الذين قادوا الحروب، لم يخوضوها من أجل المغامرة والمقامرة فقط، بل لأنهم كانوا على يقين بأنها ستكون حروباً قصيرة المدى، وبأنها فعلاً امتداد للعمل السياسي والدبلوماسي بوسائل وآليات أخرى، وتروم تحقيق نصر خاص يفرض سلماً بشروط المنتصر عبر حرب قصيرة المدى.
من هنا، على الجزائر أن تستحضر في ذاكرتها سيناريو الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) حتى لا تتكرر مأساتها مع المغرب. وهي الحرب التي خسرت فيها بغداد وطهران أكثر من مليون روح بشرية والآلاف من المعطوبين والجرحى، إلى جانب إنفاق المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة والعتاد وإغناء الشركات المنتجة لها والوسطاء والسماسرة. بل إن هذه الحرب ولدت حرباً أخرى (حرب الخليج الثانية) التي أودت بالعراق الزاهر المزدهر إلى الهاوية.
لقد اختار المغرب مسار التنمية وراهن على خلق دولة الرفاه الاجتماعي والتخلص من المناطق الرمادية التي تعكر صفو مواطنيه، رغم حالة الحرب التي فرضت عليه منذ عام 1975، عقاباً له على استرجاع صحرائه من المستعمر الإسباني، ومن ثم فإنه لن يكون البادئ لأي حرب ضد جارته الشرقية. وقد أعلن عاهل المغرب الملك محمد السادس مراراً وتكراراً تشبثه بسياسة اليد الممدودة إلى الجزائر، والتأكيد لها أنها لن ترى أبداً شراً يأتيها من المغرب.
هذه السياسة المغربية الرامية إلى السلم ليست وليدة اليوم، فقد سبق أن التزمها المغرب أيضاً في عهد الملك الراحل الحسن الثاني في ظرفية تعرضت فيها أراضي المملكة للخطر عقب هجوم ميليشيات جبهة البوليساريو الانفصالية في 28 كانون الثاني (يناير) 1979 على مدينة طانطان الواقعة جنوب المغرب، وفي منطقة غير متنازع عليها، وهو الهجوم الذي دام ثلاث ساعات ونصف ساعة وعرفت خلاله المدينة تخريباً وشغباً واختطافاً لمدنيين.
بعد مرور أيام قليلة على أحداث طانطان، عُقد اجتماع في مقر عمالة (محافظة) مدينة مراكش ترأسه الملك الراحل الحسن الثاني، وحضره أعضاء لجنة الشؤون الخارجية والحدود والدفاع الوطني والمناطق المغربية المحتلة في البرلمان، وأيضاً قادة أركان القوات المسلحة الملكية المغربية.
كان هدف الملك الحسن الثاني من هذا الاجتماع هو أن يشرح للنواب أين نحن من هذا العداء الذي تشهره الجزائر باستمرار ضد المغرب، لدرجة أنها تجرأت ودفعت بميليشيات جبهة البوليساريو إلى احتلال أراض مغربية ليلاً ولو لبضع ساعات.
قدم الملك الراحل عرضاً أكد فيه أنه ضد الحرب مع الجزائر مهما كانت الظروف، بخاصة أن حزبين معارضين هما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والتقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقاً)، كانا يطالبان بالرد بالمثل على التحرشات الجزائرية بالمغرب.
يروي نائب في البرلمان المغربي حضر الاجتماع آنذاك أن الملك الحسن الثاني سأل في مستهل الاجتماع: هل محمد اليازغي وعلي يعته موجودان؟
كان اليازغي قيادياً بارزاً في حزب الاتحاد الاشتراكي ونائباً في البرلمان، بينما كان يعته أميناً عاماً لحزب التقدم والاشتراكية والممثل الوحيد للحزب في البرلمان.
خاطب الملك الحسن الثاني اليازغي ويعته قائلاً: “أنتما اللذان تريدان أن أدخل في حرب مع الجزائر، أود أن أقول لكما إنني لا أود ذلك، وسأشرح لكما لماذا؟”.
وأضاف النائب ذاته أن الملك قال عبارة مليئة بالحكمة وبعد النظر هي: “إن الحرب الخاسر فيها منهزم، والرابح فيها منهزم، والهزيمة لا يمكن تجاوزها، والرجوع إلى وضعية ما قبل الحرب مستحيل إلا بعد مرور 30 سنة على الأقل”.
ثم بدأ الملك شرح صور كانت تعرض على الشاشة، مبرزاً ما يمتلكه المغرب والجزائر من أسلحة وعتاد وجنود. لقد كان الملك الحسن الثاني صارماً في كلامه، وخلص إلى القول: “كيفما كانت الظروف لن أدخل في حرب مع الجزائر”.
قد يقول قائل إن الغرب المتورط حتى النخاع في حرب أوكرانيا لن يسمح باندلاع حرب بين المغرب والجزائر لأسباب عدة.
أول هذه الأسباب هو أن أقرب نقطة مغربية إلى الساحل الإسباني لا تبعد سوى 14 كيلومتراً، وبالتالي فإن أي حرب تندلع ستصل شظاياها إلى أوروبا.
ثانياً، لن يسمح الغرب بضرب مصالحه في مضيق جبل طارق مثلما هو حاصل الآن في مضيق باب المندب الذي تمر عبره 17 ألف سفينة تجارية سنوياً، و12 في المئة من حجم التجارة العالمية، وثلث نفط العالم، و8 في المئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال.
ثالثاً، بما أن الحرب لها امتداد إنساني، يبقى التساؤل حول ماذا سيكون موقف المغاربة والجزائريين في دول الاستقبال الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وغيرها من الدول؟ بالتأكيد، ستصبح هذه الدول ساحة الوغى بين المغاربة والجزائريين، ما سيهدد الأمن القومي والاجتماعي فيها.
إن عدد الجزائريين المقيمين في فرنسا، على سبيل المثال، تجاوز خمسة ملايين شخص، فيما تجاوز عدد المغاربة المقيمين في البلد نفسه مليوناً و150 ألف شخص.
رابعاً، إن منطقة شمال أفريقيا لا تنقصها التوترات والأزمات التي هي قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، لا سيما في منطقة الساحل والصحراء، ومن ثم فإن اندلاع أي شرارة حرب بين الجزائر والمغرب سيزيد من تعقيد الوضع في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
لقد أبلغت واشنطن الجزائر مراراً وتكراراً، منذ أيام الرئيس بيل كلينتون، رسائل مفادها أن أمن المغرب واستقراره يظلان خطاً أحمر بالنسبة إليها، ويبقى على عقلاء الجزائر أن يتساءلوا إلى متى ستظل بلادهم في حاجة إلى تدخل القوى الدولية الكبرى لمنعها من الإقدام على أي محاولة انتحارية؟
إن دوام الحال من المحال، ولا بد للسلام من أن يسود بين المغرب والجزائر، طال الزمن أو قصر، لأن ما يجمع بين البلدين أكثر مما يفرقهما.