في شهر دجنبر من العام 2022، تسربت وثيقة على شكل توصية وجهها “عيسى بلخضر” مستشار الرئيس الجزائري المكلف بالجمعيات الدينية والزوايا، إلى “سيدي علي بلعرابي” الخليفة العام للطريقة التيجانية، يحرضه فيها بشكل واضح ضد الامتداد الروحي للمملكة المغربية في إفريقيا.
وكان مما جاء في الوثيقة المسربة مضامينها على الإنترنت، توجيه بشكل فج من أجل “وقف الزحف المغربي الذي تجاوز كل الحدود في مسألة الديبلوماسية الدينية حيث استثمر المغرب العلاقات الروحية التي تربطه بالشعوب الإفريقية لتغلغل سياسي واقتصادي داخل هذه الشعوب”، ولضمان نجاح هذه الخطة تسلم “الخليفة” مبلغ 200 ألف يورو لتوزيعها على الشخصيات التابعة للطريقة التيجانية، مع طائرة خاصة وضعت رهن إشارته لزيارة البلدان الإفريقية الحاضنة لفروع الزاوية، والإعداد فيها لمؤتمرات يتم تمويلها بالكامل من طرف الرئاسة الجزائرية.
هذا مثال واحد من بين أمثلة عديدة على الحقد المرضي الذي تعاني منه الطغمة العسكرية في الجزائر ضد كل ما هو مغريي، وإذا أضفنا إلى عقدة الحقد هذه ركام الجهل المركب والتخلف الذي يعشش في دولة تتمتع بإمكانيات هائلة تمنحها كل فرص التحول إلى بلد مؤثر إقليميا ودوليا دونما الحاجة إلى النظر في فناء الجيران، والسقوط فريسة الطمع، حيث يطمع العسكر في الاستيلاء على الصحراء الشرقية المغربية استكمالا لحلقة الاستعمار وإذعانا لمخططاته الكولونيالية، ثم يطمعون في باقي الأراضي الصحراوية بالتراب المغربي، ارتباطا بوهم اسمه الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي، ثم يقومون بكل المناورات من أجل عزل المغرب عن محيطه الإفريقي، في سلوك دونكيشوتي يصطدم كل مرة بمشروعية الحق المغربي، وببداهة حقائق التاريخ والجغرافيا، وتغذي هذا المسلك سيكولوجيا الجشع التي يصفها عالم النفس الألماني الشهير “إيريش فروم” بالحفرة التي لا قاع لها، والتي كلما حاول صاحبها ملأها ليشعر بالإشباع زاد عمقها، فتتملك عقله ووجدانه الحاجة إلى الاستمرار بالردم مع استحالة الإحساس بالإشباع.
وهكذا هي نفسية الحاكم العسكري الجزائري، العاشق لردم كل ما تم بناؤه بين الشعبين المغاربيين طوال قرون كان الشعبان في المغرب الأقصى والمغرب الأوسط يقتسمان فيها كل شيء، الهوية والأرض والمصير، ومئات السنين من حكم الدول المغربية المتعاقبة في ظل الأمن والوحدة، قبل أن ينيخ الاستعمار الفرنسي وقبله الحكم العثماني بكلكلهما على “الإيالة” في رواية أنقرة، أو “المقاطعة” في أدراج بلدية باريس، دون التمكن من اختراق الحدود في اتجاه المغرب الذي ظل محافظا على قوته وتماسكه وعوامل وحدته التي تحول دون انكساره واندثاره حتى في فترة الحماية الأجنبية، ولعل أبرز هذه العوامل هي معالم الشخصية الحضارية المغربية بكل أبعادها الروحية والزمنية.
لقد اختار المغاربة صياغة نظامهم السياسي في إمارة المومنين بما ترمز إليه من علامات التفرد والاستقرار والاستمرار، وتعبدوا بالمذهب المالكي بما يمثله من أصالة المرجعية الدينية وامتدادها إلى معينها الصافي المتمثل في فقه إمام المدينة وأهلها الوارثين لشريعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وارتضوا العقيدة الأشعرية لإثبات اتباعهم سنن من كان قبلهم من السلف الصالح، وانتهجوا سلوك الجنيد العابد الزاهد طريقة مغربية خالصة للتصوف، فكانت سمة التدين المغربي هي التوازن والاعتدال والرفق والمحبة، وفي ذلك عينه نظم العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس في شرحه على توحيد ابن عاشر، أبياته الشهيرة التي منها:
“وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للأمي تفيد
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك“
إلى أن يقول:
“يا من تقاعد عن مكارم خلقه ليس التفاخر بالعلوم الظاهرة
من لم يهذب علمُه أخلاقَه لم ينتفع بعلومه في الآخــرة”
وكذلك كان، فقد ظل المغرب منارة تهتدي بها الشعوب من شمال إفريقيا إلى جنوبها، ومن غربها إلى شرقها وصولا إلى مشارف آسيا وغيرها من القارات، حيث أشع النموذج الروحي المغربي، وشكل تجربة متفردة في القيم التي تؤكد حضورها وريادتها يوما بعد يوم، وهو الحضور الدائم والريادة المستدامة اللذان يستفزان العسكرتاريا الجزائرية الفاقدة لكل مشروعية على الأرض سوى ما كان من أدوار جيوسياسية استعمارية تكمل بها ما بدأه الاحتلال الأجنبي عبر محاولات دائبة لتقسيم المنطقة وشرذمتها إلى دويلات، حتى يسهل التحكم في مساراتها ومقدراتها الطبيعية والبشرية.
وينتصب التصوف باعتباره هوية مغربية جامعة، حائط صد ضد المحاولات الرامية إلى محو الشخصية الحضارية المغربية، ولذلك كانت الزوايا في قلب التصور الاستعماري المستهدف لغزو بلادنا زمن الحماية، وهو ما انتبه إليه المفكر المغربي عبد الله العروي حينما كشف عن نظرية الزوايا الخمس التي صاغها شارل دو فوكو والتي كانت بحسب العروي تمهيدا لوضع نظرية الحماية، وحيثما تمكنت فرنسا من بسط سيطرتها على هذه الزوايا الخمس، أحكمت نفوذها على كل البلاد، وهذه المناطق الحاضنة للزوايا المغربية الخمس الكبرى حسب نظرية دو فوكو هي: وزان، وأبي الجعد، وتامكروت، ومدغرة، وتازروالت، وقد نجح الفرنسيون بالفعل في استمالة بعض الزوايا التي استغلوا زعاماتها في ضغطهم على السلطان محمد الخامس من أجل الرضوخ للإقامة العامة، لكنها مناورة باءت بالفشل الذريع بفعل يقظة الوطنيين المغاربة ومنهم أبناء الحركة الوطنية من داخل العديد من الطرق والزوايا.
وهكذا فالصراع من أجل السيطرة على الزوايا المغربية، هو حاجة استعمارية، لن تسقط بالتقادم، ولئن فشل الاستعمار في تنفيذ مخططاته بفضل كفاح المغاربة ومقاومتهم للمد الاستعماري، فإن وكلاءه المحليين لا ينفكون عن نفس المناهج والمخططات، وإلا كيف نفسر الحرب الضروس التي يقودها جنرالات الجزائر ضد الزوايا المغربية، وفي مقدمتها الزاوية التيجانية، التي طفح اللغط الجزائري حولها في سياق السياسة التي خطها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي وضع أسس سياسة دينية لمنافسة مزعومة للنفوذ المغربي في إفريقيا والعالم الإسلامي، واستنساخ الاستراتيجية المغربية في تأطير الحقل الديني، حيث قام منذ وصوله إلى قصر المرادية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، بسن إجراءات جديدة لتمكين الزوايا الصوفية من لعب أدوار أكبر في السياستين الداخلية والخارجية للجزائر، بل إن بوتفليقة وضع ميزانية ضخمة لبناء مسجد كبير يحاكي مسجد الحسن الثاني، وأمر بإقامة دروس دينية رمضانية سميت بالدروس المحمدية على شاكلة الدروس الحسنية، فضلا عن تنظيم مهرجانات ومؤتمرات للطريقة التيجانية مع محاولات يائسة لاختراق الزاوية البودشيشية في المغرب، وهي الاستراتجيات التي لا زالت مستمرة بشكل مهووس بهدف ترسيخ نفوذ متوهم للجزائر على المستوى الإقليمي.
ومن مظاهر القصور في تفكير العسكرتاريا الجزائرية، عدم استحضار الأدوار الكبرى السياسية والاجتماعية التي لعبها التصوف في تاريخ المغرب، إذ أنه جزء من النسيج السوسيولوجي المغربي لدرجة أن أغلب دول المغرب بدأت دعوتها في الزوايا على يد رجال دين من أقطاب التصوف والسلوك الروحي، ومن ثم استطاعت تشكيل معالم عظمة المغرب الذي يسميه الدارسون الغربيون، وهم العارفون الجيدون بحقائق التاريخ، بالإمبراطوية المغربية، وعيا منهم بقوة هذا البلد وامتداداته الاستراتيجية، وكما فشلت الجزائر في إقامة دولتها المزعومة على ضفاف المحيط الأطلسي، وفي النيل من الوحدة الترابية الوطنية، فإنها ستستمر في الفشل في كل مراميها، لأنها بالفعل دولة فاشلة على كل المستويات، ولكونها تعاني من توالي الأزمات الاجتماعية والسياسية الداخلية، فهي تترنح، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة.