لا أحد في مغرب اليوم، مهما كان موقعه، يستطيع الإدعاء أنه كان يتوقع ما حدث أمس، بمناسبة المعرض الدولي للكتاب و المجلة، من تظاهر أو حراك شبيبي كالسيل فاجأ بل و أذهل الجميع، بمن فيهم، المشاركون في اللقاء فيه دون قرار أو موعد مسبق، بل و أذهل الكاتب السعودي نفسه، و موزع كتبه؟وذلك فضلا عن الصحفيين و المهتمين المغاربة بالشأن الثقافي، أما الشيوخ و مقدمو الأحياء و القياد و عموم المخبرين… فلم تنفعهم أعدادهم و لا كفاءاتهم المشهود لهم باستباقاتها، في توقع ما وقع، و التنبيه له قبل وقوعه، و لا شك عندي أن ( اللجنة المركزية للثقافة و الإعلام) في الإدارة العميقة، كانت و ما تزال في سبات عميق على هذا الصعيد المعقد و الدقيق على النبهاء و المختصين، فما بالكم بمأجورين أميين، ثقافيا و فكريا.
التاريخ فجاء، و المجتمعات تستغفل و تستنوم، خاصة أولئك الذين يستهينون بذكائها و مكرها الجماعي، و لعله أخطر أسلحة مقاوماتهالعل هذه الإنتفاضة الثقافية العفوية حقا و صدقا، تكون أهم و أخطر، في المعنى و الدلالات، من سوابقها السياسية ( فبراير) أو الإجتماعية ( في الشمال ) أو الحقوقية (فكيك)…ذلك خاصة في نوعيتها الجديدة مطلقا : شبيبية، ثقافية، سلمية، عفوية، مفاجئة، صامتة، و واعدةإنه لا يكفي، لتحقيق و ضمان وحدة التناقضات في الدولة الوطنية الحديثة، الحدود الجغرافية- السياسية، و لا الجيش و الأمن الوطنيين، و لا الدستور و مؤسساته..
بل إن الإسمنت المسلح لوحدة الشعوب و الدول اليوم، هو الثقافة الوطنية، و ليس الفلكلور، رغم أهميته كمادة من مواد بنائها و تنميتها و شيوعها و نفوذها .
أزماتنا على هذا الصعيد، تكاد تكون مهملة، مقارنة إلى أزمات بقية القطاعات السياسية و الإجتماعية…بل إن الجميع يتصرف و كأنها غير مطروحة أصلا، يستعاض عنها، بالإعلام و بالفلكلور، و بالفرجة، و بإحالتها على المجتمع، أو على التراث، أو الإستيراد…من الغرب الرأسمالي المتوحش خاصة، ما هو أسوء من فلكلور الخليج؟!أجهزة الأمن و الدفاع عندنا، على تنوعهاو تعددها، لا تتصور الإختراق و التدخل الخارجي، إلا ماديا مشخصا و قابلا للضبط و الإعتقال، و الحال أن الأفكار و الأخيلة و حتى الأوهام، خيرة كانت أم شريرة، قد تتحول إلى قوة مادية إذا هي تمكنت من إقناع جماهير بدون منعة و غير محصنة ثقافيا بوعي علمي، نقدي، ديني، وطنيفما بالكم إذا اتصل الأمر بفئات شبيبية غضة متعطشة حيوية طامحة…كما هي حال شبيباتنا المغربية، ذلك يعني أن مسألة المنعة الثقافية و التحصين الأخلاقي الوطني، ليسا من مسؤولية الأمن، داخليا كان أو خارجيا، بل هو مسؤولية المجتمع ( مدني و تقليدي) من خلال مؤسساته الحديثة و الموروثة، و في المقدمة منه، مثقفوه، هؤلاء المعرضون اليوم للكثير من الغبن و التحقير و التهميش، بل و التشكيك أحيانا، و تكفي واقعة التلاعب بمصير ( اتحاد كتاب المغرب) دليلا و حجة على ذلك الإنحطاط و الإستهتار، و أيضا تحول التصريح الإداري لتأسيس الجمعيات… إلى طلب ترخيص عمليا، و كذلك الإيداع القانوني في المكتبة الوطنية تحول أحيانا إلى استرخاص؟! أما توزيع الكتاب و المجلة فقد أضحى من قبيل الكوابيس بالنسبة للناشر و الكاتب، مقارنة إلى موزع مغرض لغويا و ثقافيا، و لا يفرق بين الكتب و سلعة الطماطم؟و جذور المأساة على هذا الصعيد تعود إلى ما هو أقدم و أخطر، و ذلك منذ الإجهاز على ( أوطم) و تفتيت النقابات و اصطناع الأحزاب، بل و اختراقها بانقلابات تعفن من الداخل لقياداتها المركزية و المحلية، و هو ما يضمن لهم هروب شبيباتنا من الإلتحاق بأحزاب(ها) و نقابات(ها) و جمعيات(ها) الكفيلة وحدها بدعم التربيتين الدينية و الوطنية، المفروض أن يتلقاهما في الأسرة و الحي و المسجد و الإعلام و جميعها تعاني من ازمات إعاقة و تحقير مدبرة غالبا، داخليا و خارجيا.
لقد تم تجريد الشعب عموما، و شبيبته خصوصا، من أسلحة حماية وعيه و وجدانه و سلوكه، و لم تعد له قلاع معنوية تحصنه أما خطاب ( تامغريبت) الإستشراقي الإنعزالي و العنصري، فهو محض دعوة إلى النكوص نحو الفلكلورية ( ثقافيا) و الفرنكوفونية- المزوغية ( لغويا) و الوثنية الأسطورية ( دينيا) و الإنحلال و التهتك ( أخلاقيا و سلوكيا) وهو ليس شعارا عاجزا عن مواجهة العولمة الثقافية و حسب، بل هو جزء منها لا يتجزأ عنها، و الفضيحة الفاضحة، أن ينتهي أحد أهم رموز الدعوة لتامغربيت، إلى تنزيله له منزلته الحقيقية كخيانة وطنية؟ليس إلا ( تاعروبيت) إسلامية و حداثية سبيلا للتحصين و التمنيع و مقاومة التوحش و التهتك و التفاهة العولميين، و يفترض في ما بقي من أحزاب وطنية و جادة، ألا تبالغ في التلاؤم مع بؤس الواقع و اختلال ميزان القوة فيه، إلى درجة استحالت فيها إلى ( نقابات) سياسية؟ تهتم بالأوضاع المادية، دون الروحية و الأخلاقية للمواطنين؟!