يرى برغمان أن هذا الخداع يحيل، من ضمن أمور أخرى، إلى عبقرية عقل هذا العدو، وهو ما لا يسمح الاستعلاء الإسرائيلي بالإقرار به، كون الخداع الذاتي الإسرائيلي فيما يخصّ فرادة العقل اليهودي سيكون مزدوجا، وينسحب على مجال الاستخفاف بالعقل الخصم.
لا مبالغة في القول إن الطريق ما زال طويلًا أمام استبطان الإسرائيليين فكرة أن “الجار الفلسطيني” ليس دونيّا، بل هو فاعل حيوي في الفضاء الإنساني، وفي حيّز العقل والتفكير، وأن ما يحول دون هذا الاستبطان من جملة أشياء أخرى هو الإيمان الأعمى بـ”فرادة” العقل اليهودي، لا فيما يتعلّق بعمليات البناء الداخلي للكيان، وتسويق صورته في الخارج، إنما أيضا في ما يرتبط بالاستخفاف بعقل هذا الجار، ومعرفة ما يمكن أن يفكّر فيه ويخطّط له.
وسبق لنا قبل أعوام أن تناولنا خلاصات كتابٍ جديد لباحثيْن نفسييْن إسرائيلييْن بعنوان “المنطقة المُريحة لمجتمع في صراع” (2021)، يؤكّد أن المجتمع اليهودي، في معظمه، مُستنقعٌ حتى إشعار آخر في ما يصفها بأنها “منطقة مريحة” بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين. وتغلب على مواقفه حيال هذا الصراع سمتان رئيسيتان: الإقصاء والإنكار، ولا تنتابه أدنى مشاعر ذنب أو خجل إزاء ما كان وما زال يتمّ اقترافه من جرائم وآثام. ولكلا هذيْن الباحثيْن مساهماتٌ عديدة في تبيان الأساس النفساني- الاجتماعي الذي يقف عليه الصراع المذكور، وفي تحليل العوامل والمنظومات والسيرورات النفسانية الضالعة فيه، سيما التي تؤثر، بصورة بالغة، على إدراك المجتمع اليهودي الواقع بقدر ما تؤثر في السلوك الجماعيّ لهذا المجتمع، والذي ترسّخت فيه مفاهيم صنميّة على غرار العنصرية إزاء كل ما هو عربيّ، وتعزيز النزعة العرقيّة الاستعلائيّة، وترسيخ التربية الفاسقة غير المنطوية على الانفتاح والنقد.
وفي غمرة المرحلة الحاليّة من هذا الصراع التي تلت عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، ما زالت تتوالى في إسرائيل آراء تنأى بنفسها عن هذا الاستنقاع، فيما يخصّ تتفيه العقل الفلسطيني والعربي، على وجه التحديد. وهي بكيفيةٍ ما تغاير ما كان سائدا عموما حتى ما قبل فترة وجيزة، وتمثّل في إقرار بعضهم بهزيمة مؤسّسة الاستخبارات الإسرائيلية من جرّاء الإخفاق الكبير في استشراف قدرات المقاومة الفلسطينية. والمقصد على وجه التحديد تلك القدرات التي جعلت “تنظيما مسلحا يأتي في الدرجة الأخيرة بين أعداء إسرائيل من حيث القوة، يتحدّى أقوى دولة في منطقة الشرق الأوسط”، كما قال اللواء احتياط يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في الأيام الأولى للحرب. وكانت أهم القرائن على هذا الإخفاق متعلقة بالفشل في قراءة سلوك حركة حماس، والناجم عن تقديـر معظم أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عشية الحرب أن هذه الحركة مردوعة، ناهيك عن أنها تعاني من ضعف سياسي وعسكري.
بدأت في الفترة الأخيرة تتسلّل إلى وسائل إعلام إسرائيلية مركزية آراءٌ لا تزال قليلة تستأنف على هذا الاستنقاع في تأنيب العقل الإسرائيلي إلى ناحية الإقرار بأن فعل الجانب الآخر في حيّز العقل والتفكير يمكن أن يضاهي ذلك العقل الذي يحسب أصحابُه أنه فريد من نوعه. وربما أبرز من عبّر عن هذا الأمر محلل الشؤون الأمنية في صحيفة يديعوت أحرونوت، رونين برغمان، والذي ينشر تقارير في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أيضا، عندما كتب أخيرا أنه طوال الأعوام التي مرّت على قيام إسرائيل “بقينا منشغلين حتى الثمالة، في كل ما هو مرتبط بإخفاقاتنا الأمنيّة، في البحث بشكلٍ مريحٍ عن متّهمين بوقوع هذه الإخفاقات بين صفوفنا بغية شبحهم في الميادين العامة، وذلك بدلًا من الانشغال بالسؤال الأهم: ما دور العدو في هذه الإخفاقات؟ أو بكلمات أخرى يبدو أن لا أحد على استعدادٍ لأن يقولها: هل وقعنا ضحيّة خداع هذا العدو؟”. وفي سياق آخر، يرى برغمان أن هذا الخداع يحيل، من ضمن أمور أخرى، إلى عبقرية عقل هذا العدو، وهو ما لا يسمح الاستعلاء الإسرائيلي بالإقرار به، كون الخداع الذاتي الإسرائيلي فيما يخصّ فرادة العقل اليهودي سيكون مزدوجا، وينسحب على مجال الاستخفاف بالعقل الخصم.