خالد عبداللطيف
رمضان الدافئ ولى بغير رجعة،ولم يبق من زمنه البهي غير تجاعيد شائكة كشجر الصبار،واختفت أريحيته الممتلئة بالسعادة البسيطة والفرح الطفولي،وحل محلها رياضات جوفاء ناكرة منكرة،وعادات ملتبسة وغريبة ما أنزل الله بها من سلطان.
أغلب سنوات رمضانيات التي وضعتها ذاكرتي مابين مرحلة الطفولة والشباب،كانت تاتي في فصول صيفية حارة مشبعة بالغباروالزوابع الرملية،ومفعمة برياح الشركي الحارة الشبيهة بريح الخماسين الحارة بالعراق.ولسوء حظنا في تلك المرحلة من اواسط السبعينات من القرن الماضي ان الثلاجات كانت نادرة،ولايقتنيها غير الميسورين،اما الاغلبية الساحقة من ساكنة المدينة،فقد كانت تعيش فقرا مدقعا،ولاتستعمل إلا الخابية أو القلة المصنوعة من الطين الاحمر او الفخار،وبسبب الحرارة المرتفعة،كانت العائلات تتفنن في تغليف الخابية أو البيدوزات البلاستيكية بكيني قمحي (الخنشة) وتزرع في ثناياه بضع حبات من القمح،لتنمو في جنبات الخابية بعض النباتات الخضراء،مما يجعل ماء الخابية باردا وطعمه جيد وصحي عكس ماء الثلاجة الذي يتسبب في وجع بالامعاء ويهلك الكبد والمعدود والعهدة على عائلاتنا،وتفسيرات أمي زينب وجاراتنا خالتي هذة وفاطمة والجيلالي وحمو…
وبما ان رمضان كانت أجواؤه حارة تخنق الانفاس لاتسر صديقا ولاعدوا،كان ملاذنا الوحيد لتصريف الوقت الطويل الذي لايتحرك إلا ببطء،نتوجه نحو العين الوحيدة الموجودة قرب نهر أم الربيع الذي يطل عليه من علو شاهق ضريح سيدي احمد البوهالي،حيث نشره في ملء القنينات البلاستيكية والبيدوزات بالماء البارد الطبيعي،وكنا نقوم بهذه العملية إرضاء لرغبات والدينا من جهة،والتنافس بيننا اطفال من جهة ثانية،ولتزجية الوقت والتسلية من جهة ثالثة.والاهم من كل هذا هو نستمتع بلحظات جميلة بالسياحة في عمق النهر الكبير خصوصا بسده الرائع الميدانية ووادي السعيد وعين عيشة ولكعبوب والنخيلة والساقية،وكانت هذه الشواطئ او الضفاف ان صح التعبير هي الأماكن المفضلة لدى شباب ورجال حي بودراع،أما كاف الصبانة وضفاف القنطرة الجديدة والشطآن المتاخمة لضريح للارحمة وضربح زوجها سيدي بلقاسم الزعري فقد كانت وجهة مفضلة لاهل الزرايب والمرس وايت عمر وايت مسعود،إلا ان اهل بودراع كانوا يقصدون اماكن السباحة هذه مهما بعدت المسافة لانها مهووسون بحب العوم والسباحة أينما كان مجراه او منبعه.
وحده نهر أم الربيع كانت وجهتنا ومقصدنا،نقصده في العشي والابكار،بالليل والنهار لانه الوحيد الذي كان يحتضننا بحب عريض وقوي،يفتح لنا ضفافه الساحرة واللازوردية كي تنتعش بمويجاته الباردة.
وحده أم الربيع كان متنفسا كبيرا لكل التادليين والتادليات،ولاتتوقف المتعة بمياهه عند هذا الحد،بل انه مصدر رزق ليس للصيادين فقط ممتهني هذه المهنة،بل كنا نحن الصغار والكبار نحصل منه على صيد وفير من أسماك مشهورة النوع ك(البوقة والصفراء والفرح والباربو..)كان السمك وفيرا،وكانت أغلب العائلات تعول عليه على مائدة الافطار في رمضان.
كان الحصول على ماء العين يعتبر إنجازات مهمة بالنسبة إلينا نحن الشباب المراهقين،لأننا كنا نحظى بنظرات الاعجاب من الوالدين،والجيران وبنات الجيران ،ولم تكن تستكنف بعض العائلات في ارسال بناتهن البالغات وغير البالغات الى العين من أجل جلب الماء،ولم يكن يتعرضن لأي نوع من التحرش لان ذلك الجيل الاول من الشباب كان يعيش على الحشمة والاحترام والوقار والاخلاق العالية،وكانت حرمة الجوار من أقدس العلاقات،وبسبب تلك السلوكات النظيفة لم تكن العائلات تجد حرجا في ارسال بناتهن للعين،ولا احد من الشباب كانت تسول له نفسه التلصص بعيونه ونظراتها لبنات الحي واجسادهن الطرية وصدورهن الخالية من الحمالات(السوتيامات)..
لكن عطفنا على بنات الحي او الدريبة يقابلنه باعتراف جميل ضمني يرددنه على مسامعنا بعد الافطار”إينا زنيقة ساكنا عتيقة..إينا حومة ساكنا حدومة…نموت انا ومايموت حبيبي…”
مرت عقود طويلة،وكبرنا..وكبرت بنات الدرب،وكلما التقينا بالمتزوجات او المطلقات او العاملات من بنات الحي،وحين تلتقي نظراتنا،نسترجع ذلك الموال،وكأن الماضي يحيا بعينه في عيونهن البريئة والطاهرة،ويتردد صدى صوت الزوهرة وعتيقة ونعيمة ومينة الصالحة ومولودة وفاطنة”إينا حومة ساكنين انتوما..نموت انا مايكون حبيبي”
لقد كان رمضان مختلفا عن باقي شهور السنة،منظما ومحسوبا بشكل دقيق ،وكنا دائما نتمنى أن يستوفي الثلاثين.
فخلال الاسبوع الاول من هذا الشهر الفضيل،تتناوب نساء الحي على اعداد لخميرة البلدية وتربيتها كما يسمونها في لهجتنا الدارجة،ففي كل يوم يتم الاحتفاظ بقرص من العجين من أجل تجديده بمزجه بالخميرة البلدية وبدونها فلا معنى الحريرة او طعمها.
يتبع…