بداية لا يمكننا التعبير عما نقصده في بحثنا هذا أفضل مما عبّر عنه أستاذ الفلسفة ” آلان دونو” بهذه الكلمات: “لا تكن فخوراً ولا روحانياً, فهذا يظهرك متكبراً, لا تقدّم أي فكرة جيدة, فستكون عرضة للنقد, لا تحمل نظرة ثاقبة، وسّع مقلتيك، أرخِ شفتيك، فكّر بميوعة وكن كذلك, لا لزوم لهذه الكتب المعقدة, عليك أن تكون قابلاً للتعليب, لقد تغير الزمن, فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة”.
وكذلك يقول إدوارد سعيد: “الخطر الذي يهدّد مثقّف اليوم، في الغرب وفي بقيّة العالم، لا يكمن في الجامعة، ولا في التسليع الشنيع للصحافة ودور النشر، وإنما يكمن في موقف عامّ شامل سوف أسمّيه: المهنيّة (التخصص)”.
وفي خضم التفكير والسؤال عما دفع العالم إلى تبني هذا النظام وربطه بجميع المفاصل الحياتية اليومية, وعن القانون الطبيعي الكوني ونظام وجودنا كما ذكره “مونتسكيو” حين قال: “إن قدَراً أعمى أوجد جميع المعلولات التي نبصرها في العالم”, ربما كان قد قال شيئاً محالاً أو عظيماً، فأي محال أعظم من قدر أعمى أحدث موجودات مدركة؟.
فنحن نعيش الآن مرحلة تاريخية غير مسبوقة تتعلق بنظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة, وهذا النظام تناول محاور أساسية من قلب ممارساته، وذلك بغية معاينة آثار هذا النظام على كافة شرائح المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فقد رأى “آلان دونو “بأننا نعيش في مرحلة تاريخية شبيهة “بنظام التافهين”، حيث يبسط فيها التافهون نفوذهم على الحكم, كما يدعونهم في كافة مجالات الدولة، ليس هذا فقط؛ فلنظام التفاهة رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة خاصة به، أما السر الخطير خلف نجاح هذا النظام فهو في قدرته العظمى على إيهام الأفراد بأنهم أحرار في ما يفعلون، بينما هم مسيّسون بسياسة القطيع.
ونظام التفاهة معناه حالة الهيمنة التي أنشأتها طبقة حاكمة مؤلفة بشكل كامل من أشخاص عاديين جداً.
وبالعودة إلى مونتسكيو أيضاً نرى أن العقل يزجر المشاعر ويسيطر عليها دائماً، وهو لا ينفك يوصي بالاعتدال وضبط النفس، وهو يشير بإطاعة القوانين، وهو لا يذهب إلى نيل العدل والتقدم بالقهر والعنف، وهو يعوّل على الزمن والعمل الخفي وغير المحسوس, وعلى العقل في إصلاح النظم السياسية والاجتماعية وزيادة حاصل العدالة في الأمم، وفي الفوز بالسعادة والرخاء، ولا ريب في أنه كثير الحساب لضعف الناس وشهواتهم، ولكن من غير ذعر وقنوط، ولم يفته أن الحرية حتى في البلدان العريقة فيها، تغذِّي المصالح الخاصة بوسائل التغلب على العقل والعدل، فمن السهل تحريك شهوات الشعب وصرفه عن منافعه الحقيقة وسوقه إلى تركها.
هنا يمكننا التساؤل حول الأسباب التي مهدت لظهور نظام التفاهة التي أصبحت تفرض نفسها على تفاصيل حياتنا وبشكل فظّ ودون استئذان.
أولاً: جذور نظام التفاهة
يمكننا اختزال تغيير مفهوم الثقافة في القرن الواحد والعشرين بثقافة المحاسبة وإدارة المؤسسات الربحية، فكتب المحاسبة اليوم صارت أكثر فائدة حسب ما عبر عنه منظّرو هذه الثقافة المستمدة أصلاً من الحداثة الرأسمالية.
لدراسة الأركان التي تعتمد عليها التفاهة لخلق نظامها لا بد لنا من معرفة الأسباب التي أدت إلى ظهورها وتحولها الكبير ، وهي تعود إلى عوامل تتعلق بالسيسيولوجيا و الاقتصاد و السياسة والشأن العام.
ثانياً: السيسولوجيا والتفاهة وحركة تطور المجتمعات
هناك سؤال كبير يؤطّر معنى قضية صناعة التفاهة، ويهدم ما قبلها، وهو :
هل التفاهة صناعة مقصودة ؟
ماذا يمكن أن تجني الجهات الصانعة منها؟
الكلفة الكبيرة في صناعة التفاهة وتداعياتها المستقبلية هل من شأنها ممارسة الأدوار المغلوطة والسلبية؟ هذه أسئلة وغيرها تكشف لدى بعض المجتمعات والشعوب والحكومات قلقاً حقيقياً لما يُعتمل في المجتمع، لا من زاوية النظرة البنائية التي تظهر النسق منسجماً مع مكوناته، بل من الزاوية التفكيكية، لأن منطق الظواهر يقول إنه لا شيء يحصل صدفة، والمقدمات دوماً تصنع النتائج, والنتيجة حتماً لن تكون خادمة لنظام التفاهة.
” الميديقراطية” أو نظام التفاهة القابلة للتحول والمرونة، لمعرفة وإدراك أسباب هذا التحول، يعيد “أدورنو” ذلك إلى عاملين، في السوسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي، كأبرز مظاهر عصر ونظام التفاهة الذين يتسيّدون المشهد العام كله في العالم. ولم يعد هذا مقتصراً على شخصيات مثل ترامب وجونسون، فالعالم كله مُقدم على عصر التفاهة الكبير، كما تنبئ بذلك كل التوقعات التي أمامنا، وفي القلب من ذلك بلاد العرب بعد ما يُسمى بثورات الربيع العربي، والنتائج التي آلت إليها تلك الثورات والأزمات المرافقة. كما تجلّى استمرار تجليات هذا المشهد العام للتفاهة اليوم في دول تصبغ بتبعيتها للحداثة الرأسمالية بشكل لا حدود له أيضاً، في صورة الأزمات في دول الشرق الأوسط وتجلياتها، السياسية والإعلامية، والفنية. وما نشاهده على وسائل التواصل الاجتماعي عن حجم السقوط والانحطاط والتفاهة التي تتسيّد هذه اللحظة، من شخوص وأفكار وتوجهات وسياسات.
ما تشهده البشرية اليوم هو سقوط على كل المستويات، وتراجع في قيم ومكتسبات فلسفية كثيرة، وقد أصبحت تطبيقاتها القانونية والأخلاقية والسياسية، اليوم في محل اختبار حقيقي أمام موجات التافهين الذين أصبحوا مسيطرين على قمرة القيادة، ودفّة السفينة البشرية المعاصرة.
غدت تجليات مثل هذه النظرية واقعاً، لا على مستوى النخبة السياسية الحاكمة فحسب، بل أصابت حتى المجال العام فنياً وأدبياً وثقافياً، فغابت كل الأفكار الجميلة، والإبداعات الإنسانية فكراً وفلسفة وقانوناً وأخلاقاً وفناً، واكتظّ المشهد العام بهبوطٍ مريب للقيم الإنسانية النبيلة والخلّاقة، لتحلّ محلّها كل رداءة وسقوط في كل شيء تحت مسمى “صناعة المحتوى”.
هذا ما يتجلى اليوم في كل شيء أمامنا، وفي كل تفاصيل المشهد من حولنا, فقط ما عليكم سوى أن تمعنوا النظر من حولكم، وتلمحوا التفاهات التي تحاصرنا، في كل شيء نلمحه ويجول من حولنا، لقد أصبح الإنسان سلعة رخيصة الثمن، في زمن التفاهة والانحطاط، وتكاد تتلاشى القيم النبيلة في العالم.
ثالثاً: السياسة و الاقتصاد وحركة رأس المال وثقافة المؤسسات الربحية
غير بعيد من نظام التفاهة والأنظمة الاقتصادية والرأسمالية وصراع السلطة، كل ذلك وما ذكره “بيتر غران” في كتابه “صعود أهل النفوذ” الذي استثمر فيه أطروحاته عن تاريخ العالم، ليضيف إليها ما طوّره عبر تسميته “تاريخ أهل النفوذ”. يقول غران إن كتابه “يركز على من لديه القوة في العالم، والقوة هنا بمعناها الجيوسياسي”، إذ يحاجج في كتابه بأن تاريخ العالم المكتوب ليس في الحقيقة إلا تاريخ صعود الأغنياء، ليس فقط في حدود أن “من يملك يحكم”، بل كذلك – وهذه من التماعات الكتاب – لأن هذا المال تحديداً في تجاوزه الحدود القُطرية للدول يشكل ما يشبه تعاضداً وتحالفاً بين أهل النفوذ في العالم، وفي قلبه العالم الثالث أيضاً.
هناك الكثير من الأمثلة التي يمكن للعالم أن يراها عن معنى الازدواجية المعيارية التي تتبعها المنظمات السلطوية الرأسمالية اليوم, فمنظمة “رامسار” مثلاً وهي منظمة الأراضي الرطبة تتلقى الدعم من شركات الحفر والتنقيب عن النفط والغاز وشركات إنتاج مواد البناء والإسمنت, ومنظمة “اتركوا أمريكا خضراء” تدعمها شركة تصنيع عبوات الزجاجات البلاستيكية والتي تدعو لشن حملات ضد النفايات بدلاً من التشريعات التي تفرض عليهم إعادة التدوير .
تحالف المال والسلطة
إن محاولة تفسير العالم اليوم يتجسّد عبر علة واحدة, فإذا كان رأس المال متجاوزاً الحدود القُطرية للدول، فعلى هذا الأساس ينبغي وضع تفسيرات تتجاوز هي الأخرى حالة التقسيم الجغرافي لتبحث في أمور التعاضد الطبقي العابر للقوميات.
وعبر تلك النظرة الكلّية للعالم فهناك رفض التفسيرات المتداولة لصعود العالم الغربي، إذ يوجد غرب صاعد وشرق راكد, وصعود الأغنياء الكبير يتجسد بأمثلة عدة من مناطق مختلفة من العالم عبر مفاهيم الاقتصاد السياسي.
الشرف ليس مبدأ الدول الرأسمالية مطلقاً، فبما أن جميع الناس متساوون فيها فإن الإنسان لا يمكن أن يفضّل على الآخرين فيها، وبما أن جميع الناس راضخون حسب قناعة الأنظمة الرأسمالية الحداثية فيها, فإن الإنسان لا يمكن أن يفضّل على شيء فيها.
وبما أن للشرف قوانينه وقواعده، فضلًا عن ذلك، فلا يمكن أن ينثني، وبما أنه يتبع هواه الخاص، لا هوى آخر، فإنه لا يمكن أن يوجد في غير الدول ذات النظام الثابت والقوانين الصحيحة. وكيف يصبر المستبد عليه؟ فهو يباهي باحتقار الحياة، وليس لدى المستبد قوة إلا لأنه يستطيع أن ينزعها، وكيف يصبر هو على المستبد؟ فهو ذو قواعد متبعة وأهواء مُسندة، وليس لدى المستبد قاعدة, بل تقوّض أهواؤه جميع الأهواء الأخرى.
رابعاً : الإعلام والدور السلبي في صناعة نظام التفاهة
يعتبر الإعلام ووسائل ومواقع التواصل الاجتماعي من حيث الفائدة والهدف, مجرّد مواقع افتراضية لتداول وتبادل الأخبار والآراء, وهي تعتبر منتديات لا أكثر، عن طريقها يتم صناعة و تشكيل “العقل الجمعي” من خلال لغة وطريقة وأسلوب مدروس بعناية وآلية دقيقة في متابعة المنشورات, والهوَس في مواضيع يتم التجهيز لها بعناية من قبل شركات تتبع أنظمة تعتمد على التكنولوجيا المتطورة في عالم الرقميات والبرمجيات التي تعتمد على تحليل المصادر والبيانات, لتسهيل قيادة تلك العقول والسيطرة عليها.
ويمكننا القول إن حروب الجيلين الرابع والخامس وقدرتهما الاعتماد على الثورة التكنولوجية الكبيرة, ساهمت ولا تزال في السيطرة على العقول وتوجيهها إلى حيث تتطلب سياسة الشركات المسيطرة والمصنّعة لتلك المواقع والشبكات والوسائل, و هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور – بسرعة وبدقة – موضوعًا محددًا، نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل مثل (المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد).
ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع في إعطاء التفاهة مجالاً ومتّسعاً وساهمت في “ترميز التافهين” كما يُقال، أي تحويلهم إلى رموز ونماذج لها الملايين من المهتمين والمتابعين والشغوفين بهم.
وهذه جعل الكثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا يظهرون لنا بمظهر “النجاح”، وهنا يعيش المجتمع حالة حيرة و هو أمر يدعو للتساؤل والتعجب, كيف هذا الدأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والعلم والآداب والفنون والرياضة إلخ)، فألغاها جميعًا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها في السلعة والمال فقط، فلم يُبقِ غيرهما معياراً للنجاح.
لا أحد يستطيع اليوم إلا الرضوخ والتسليم أن مشاهير السوشيال ميديا قد حققوا “النجاح” فعلًا، وفقًا لمعيار المال؛ وهو المعيار الوحيد الذي وضعه مجتمعنا نصب أعين شبابه.
وإن الفوز في اللعبة حسب نظام التفاهة لا يتطلّب سوى التظاهر بالعمل، تكفي النتيجة الظاهريّة، مجرّد الإمكانيّة لتبرير الوقت المنقضي، أمّا التحقّق من النتائج وتقييمها فهو يتمّ من قبل أشخاص متورّطين في هذا التظاهر، مرتبطين به، وذوي مصلحة في استمراره.
اليوم باتت هذه السياسة قائمة ومسيطرة وبقوة في حقبة تعتبر الإدارة الشموليّة وثقافة الشركات أمراً أكثر تكاملًا (ابتسم، أنا أدفع لك. التزم شخصيًا بما أريد، أنا أدفع لك. استخدم علاقاتك لدعم عملك، أنا أدفع لك) ومثلها (الزبون هو الذي على حقّ دائمًا) وباقي الشعارات التي تضع مطالب نفسيّة قصوى على كاهل الخاضعين لها. العارفون لا يطلبون الدعم من غير العارفين؛ كل ما يحتاجون إليه منهم هو أن يكفوهم عبء إرباك المشهد بتدخلاتهم غير المستنيرة، حتى وإن كانوا حسني النية, فالطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الطيبة.
بعيداً عن الإعلام الجمعي، فإن التلفاز على خلاف ذلك، هو قوة لنزع الصفة الجمعية, إنه يفصل الأفراد الذين يشكلون الجماعة ويعزلهم عن بعضهم، فيما هو يقدم لهم الشيء ذاته بالتزامن (في الوقت ذاته) وبالتشابه (المحتوى ذاته). نحن نتعايش اليوم اجتماعياً من خلال التشارك في واقع لا نستهلكه إلا في العزلة. وهكذا ينتج التلفاز كائناً اجتماعياً جديداً، هو “سرطان الناسك الجمعي”, يجلسون -الملايين منهم في الآن ذاته- منفصلين، ومع ذلك متماثلين، منغلقين في أقفاصهم كما سرطانات الناسكة، لا رغبة في الفرار من العالم، بل من أجل التأكد تماماً من ألا يفوتهم – أبداً، أبداً – أي فتات من أي صورة تظهر لهم على الشاشة”. وهكذا، يكون الواقع متأنقاً، منقطعاً من سياقه، مؤطّراً ومعدّاً كما ينبغي، فيوصله التلفاز إلى بيوتنا مثل سلعة، حتى لا نكون بحاجة إلى معايشته أو القيام به.
ما يهم هو ليس جعل الأشياء مفهومة، وإنما التثبت من إزالة العوائق الحائلة ضد الفهم, لقد فُقدت الحِرفة.
يمكن للناس الآن إنتاج الوجبات على خطوط الإنتاج من دون أن تكون لهم معرفة بالطبخ في البيت؛ إعطاء تعليمات على الهاتف للعملاء رغم أنهم هم أنفسهم لا يفهمونها؛ بيع كتب أو صُحفٍ هم أصلًا لا يقرؤونها. إن الفخر بالعمل المُنتَج جيدًا صار أمراً في طور الاضمحلال, لم يقم هؤلاء بإشعال حريق الرايخستاغ ولا اقتحام الباستيل ولا التمرد على الشفق القطبي، بدلاً من القيام بكل هذا التخريب استولوا على المتوسط في السلطة دون إطلاق رصاصة واحدة، بل حصلوا على السلطة من خلال مدّ الاقتصاد حيث ينتج العمال وجبات خط التجميع دون معرفة كيفية الطهي في المنزل، أو إعطاء تعليمات للعملاء عبر الهاتف لا يفهمونها هم أنفسهم، أو يبيعون الكتب والصحف التي لم يقرؤوها أبداً.إننا نرى ديمومة واستمرارية دوام بقاء العالم الموجود بحركة المادة والخالي من الإدراك, وجب أن تكون لحركاته قوانين ثابتة، وإذا ما أمكن تصور عالم غير هذا؛ وجب أن تكون له قواعد ثابتة، وإلا تلاشى.
وهذه القواعد هي علاقة دائمة الاستقرار، وجميع الحركات بين جرم متحرك وجرم آخر متحرك، تتلقى وتزيد وتنقص وتزول وفق علائق الجرم والسرعة، وكل فرق اطراد، وكل تحول ثبات وقد يكون للموجودات الخاصة المدركة قوانين وضعتها، ولكن لها أيضاً قوانين لم تضعها، وقد كانت الموجودات المدركة ممكنة قبل أن تكون، وقد كان لها إذاً علائق ممكنة، ومن ثم كان لها قوانين ممكنة، وقد كانت توجد علائق ممكنة قبل وجود قوانين موضوعة، فالقول بعدم وجود عدل أو جور غير ما تأمر به القوانين الوضعية أو تنهى عنه هو قول بعدم تساوي جميع أنصاف قطر الدائرة قبل رسمها.
ولذا يجب الاعتراف بوجود علائق إنصاف أقدم من القانون الوضعي الذي شرعها، وذلك مثلاً، أن من العدل أن يُخضع للقوانين المجتمعات والناس عند وجودها، وأنه إذا ما وجدت موجودات مدركة تلقت خيرًا من موجود آخر وجب عليها أن تشكر له ذلك، وأنه إذا ما خلق موجود مدرك موجوداً مدركاً؛ وجب على المخلوق أن يقيم على ما كان من خضوعه منذ أصله، وأن الموجود المدرك إذا ما اعتدى على موجود مدرك فإنه يستحق أن ينال مثل ما صنع من شر، وهكذا…
ولكن يجب أن يحسن تدبير العالم المدرك كتدبير العالم الطبيعي؛ وذلك لأن العالم المدرك، وإن كانت له قوانينه الثابتة بطبيعتها، لا يتبعها باستمرار كما يتبع العالم الطبيعي قوانينه؛ وذلك لأن الموجودات المدركة الخاصة محدودة العقل بطبيعتها، ومن ثم تراها عرضة للخطأ، ثم إن من طبيعتها أن تسير بنفسها، وهي لا تداوم، فإذاً؛ على اتباع قوانينها الفطرية، حتى إنها لا تلزم دائماً ما تتخذ من قوانين <ولا يُعرف هل تسير الحيوانات بقوانين الحركة العامة أم لا.
الخاتمة :
نظام التفاهة وصناعة التفاهة كما ذكرته في هذا البحث وكما رأينا, قد أصبح نظاماً عالمياً جديداً وحلاً بديلاً عن الأنظمة الكولونيالية والدكتاتورية والمستبدة, لتأتي هذه الصناعة بواسطة ساعي بريد اسمه الديمقراطية المزيفة بقليل من الكذب والتضليل, بهدف تغيير مفاهيم و قيم الشعوب و الأمم.
الديمقراطية المزيفة التي كرست العبثية و الضبابية و قلب المفاهيم, و حكم السلطة المقولبة, الذين يقودون المجتمعات الى حتفها قيمياً و أخلاقياً ومادياً و اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
إن بعض برامج و إصدارات التفاهة أصبحت بمثابة تجارة سهلة ومربحة, و باتت مصادر دخل وثراء للعديد من الأشخاص عبر العالم، وهذه الصناعة تتشبع بمحتوى تافهٍ يخلو من الفائدة و القيمة الفكرية، بل والكارثة أن هذا المحتوى الفارغ يحصد عشرات الآلاف من علامات الإعجاب, ليجني صاحب الإصدار مكاسب مادية كبيرة فضلاً عن تحقيق شهرة واسعة.
نجحت هذه الصناعة بمحاصرة شعوب الشرق بالتفاهة لعدم فائدتها وجدواها وضحالة مضمونها, إذ تهدف هذه الصناعة إلى دفع الشعوب لإدمان التفاهة كي تصبح بالتالي ممارسَة يومية للفرد التابع الهشّ البعيد عن القيم والالتزامات والاستحقاقات.
المراجع المستخدمة في البحث :
1- الرأسمالية الشرقية- صلاح الدين مسلم، شلير للطباعة والنشر ، هيئة الثقافة لشمال وشرق سوريا 2022 م
2- نظام التفاهة- آلان دونو ، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، بيروت 2015م
3- روح الشرائع- مونتسكيو، ترجمة عادل زعيتر ، مؤسسة الهنداوي، المملكة المتحدة 2017م
4- المشاكل العالمية وثقافة الرأسمالية- ريتشارد روبنز، ترجمة فؤاد سروجي، الأهلية للنشر والتوزيع بيروت 2008م .
5- صعود أهل النفوذ والسلطة- بيتر غران، ترجمة سحر توفيق، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، القاهرة 2018م