بعد يومين من اختتام فعاليات المعرض الدولي للنشر و الكتاب، الرباط، في دورته 29، نقرر العودة الى موضوع الذكاء الاصطناعي رابطين اياه بمستقبل الكتاب في هذا الزمن التكنولوجي المتسارع و المتسم بتحولات تقنية معرفية خارقة للعادة تقودها جيوش من الروبوتات و محركات الدردشة و برمجيات التعلم و التوليد الالي الاصطناعي للنصوص.
- ما مستقبل الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي ؟
- ما هي طرق التعامل و الاستفادة من الكتب في خضم الثورة الصناعية الرابعة و في الافاق التي تليها ؟
- هل ثمة حاجة الى الاستمرار في ترويج الكتب الورقية و طباعتها و توزيعها في زمن ” الكل اونلاين” ؟
لتكن نقطة بداية الاجابة عن هذه التساؤلات مجموعة من الملاحظات الجوهرية..
في زمن الذكاء الاصطناعي، تعيش الإنسانية مرحلة تحول خطيرة لم تشهد لها مثيلًا. و هنا يطل علينا الذكاء الاصطناعي بمزاياه وعيوبه – التي بينا الكثير منها في سلسلة المقالات السابقة حول الموضوع نفسه في الاسابيع الاخيرة -. الذكاء الاصطناغي حاضر بقوة ليُعيد تشكيل معالم حياتنا اليومية، ولا يمكن لعالم الكتب أن يظل معزولا عن هذا الطوفان التقني الجراف.
قد يقول قائل إن الذكاء الاصطناعي هو تهديد وجودي للمكتبة الورقية، تلك البوابة السحرية التي طالما أبحرنا من خلالها في عوالم الأدب والفكر. لكن دعونا نطرح السؤال الحاسم : هل حقًا نحن على اعتاب موت الكتاب في هذا العصر الاصطناعي الجديد، أم أن الكتاب و لو تعرض للسكتة القلبية في السنوات القليلة القادمة قادر على ان ينبعث من رماده و يحيا من جديد ؟
عندما نتحدث عن مستقبل الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي، لا بد لنا في البداية أن نستحضر تاريخ الأدب والثقافة الإنسانية، حيث ظل الكتاب، في الشرق و الغرب، على مر الازمنة والعصور رمزًا حيا نابضا للمعرفة و الابداع البشري.
في المقاهي الثقافية مثلا، كان الكتاب وسيلة المبدعين للتعبير عن ذواتهم، و اداة للنقاشات الفكرية “الحامية الوطيس”، تمامًا كما كان الحال في مقهى “الفيشاوي” بحي الحسين بالقاهرة، الذي تردد على زيارته، لسنوات طويلة، نجيب محفوظ وأصدقاؤه من الكتاب و المثقفين.
و لنا الى جانب هذا مثال ثان و هو مقهى الحافة بمدينة طنجة المغربية، و الذي كان في العقود الماضية الملتقى الاثير للكاتب العالمي محمد و شكري مع اقرانه من الكتاب البوهيميين الهاربين المنفلتين من بؤس العالم.
و اليوم، نجد أن التكنولوجيا الحديثة تقدم لنا كتبًا إلكترونية وصوتية، كما تتيح لنا قراءة الكتب أينما كنا، ولكن هل يمكن لهذه الأشكال الجديدة أن تحل محل الكتاب الورقي؟
ربما يكون الأمر هنا مماثلًا لتلك النقاشات التي كانت تدور حول استبدال الراديو بالتلفاز، أو الصحف بالإنترنت… و الحال ان كل وسيلة اعلامية تواصلية جديدة لم تلغ التي سبقتها، لم تحدث على هذا المستوى اي قطيعة تقنية بين الوسيلة الحديثة و التي سبقتها.. بتاتا ! لماذا ؟ لانه في التاريخ المعاصر لثورة التواصل كان كل مخترع جديد يأتي ليضيف، و ليس ليمحو…
و في سياق متصل، بمكن ان نلاحظ ان الذكاء الاصطناعي، بقدرته على تحليل النصوص والإبداع الآلي، لن يجهز يوما على الكتب و ثقافة القراءة الكلاسيكية، لانه يتيح لنا فهمًا أعمق للكتب، واكتشاف علاقات جديدة بين الأفكار والشخصيات.
تخيل أنه لديك مساعد ذكي يرشح لك كتبًا بناءً على تفضيلاتك الأدبية، و انه يساعدك في فهم النصوص المعقدة.. هذا امر عظيم لم تكن لتحلم به في الماضي، و اليوم هو موجود بفضل ثورة محركات الدردشة الالية الفورية (جميني، كلود، تشات جيبيتي…) التي تفتح هذه الامكانيات..
و لكن رغم كل هذا، اعتقد من موقعي كخبير دولي في الذكاء الاصطناعي ان الكتاب الورقي طال الزمان او قصر سيظل محتفظًا بسحره الخاص لدى جمهوره من عشاق القراءة التقليدية، فذلك السحر، سحر ان تلامس الكتاب و تشم عبيره و تضمه الى قلبك و تضعه تحت وسادتك قبل الخلود للنوم.. اقول : ذلك السحر لا يمكن لاي تقنية أن تعوضه.
الورق الملموس، رائحة الحبر، عبير الكتب القديمة و الغبار المنبعث منها، الصفحات التي تتنزه بينها أصابعك، كل ذلك و ذاك جزء من تجربة فريدة حسية لا تضاهى..
لكن، ثمة سؤال اهم نود طرحه للنقاش :
- هل سنفقد إنسانيتنا في خضم هذا التحول التقني الجارف ؟ من المؤكد ان الذكاء الاصطناعي بامكاناته الحالية قادر على المساعدة في كتابة القصائد، و تأليف الروايات، و مقالات الرأي النقدية، و هلم جرا…
لكن.. هل سيكون يوما ما قادرًا على النقل الدقيق و الامين للمشاعر و خلجات الروح و النفس الإنسانية ؟ هل سيفهم الذكاء الاصطناعي روحنا ، نحن بني ادم، بكل غموضها و اعجازها و تعقيداتها و أحلامها و آلامها ؟
أعتقد أن الجواب، و لحدود كتابة هذه السطور هو كلمة واحدة : لا..
ان الذكاء الاصطناعي يظل أداة مساعدة و من الثابت ان الإنسان هو الصانع و الاب الروحي للأدب الحقيقي.
في النهاية، يمكننا القول ان مستقبل الكتاب في عصر الذكاء الاصطناعي هو مستقبل تكاملي تعاوني، حيث يمكن للتكنولوجيا أن تعزز من تجربتنا الأدبية دون أن تنتقص من قيمة الكتاب الورقي،و سيظل الكتاب الورقي حاضرًا، يحمل بين طياته أرواح الكتاب وأفكارهم، وفي نفس الوقت، سنستفيد من الذكاء الاصطناعي لتوسيع آفاق معرفتنا واكتشافاتنا الأدبية.
فلا خوف على الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي، بل ربما يكون هذا الزمن هو بداية لعصر ذهبي جديد للكتاب و المعرفة.
- خبير الذكاء الاصطناعي
المعهد العالي للاعلام و الاتصال، الرباط، المغرب