لعبت النخب المثقفة على امتداد التاريخ البشري، أدواراً كبيرة سمحت بتحقيق مجموعة من المكتسبات والمنجزات الحضارية والفكرية، التي كان لها الأثر الكبير في تغيير مسار الأحداث، بصورة تركت بصماتها على المستويات الاقتصادية والحقوقية والسياسية.
إن صفة المثقف لا تقترن فقط بامتلاك الشهادات الجامعية أو اكتساب الخبرات العلمية، بل تتصل أساساً بمستوى الإنتاجات الفكرية والمساهمات الفعلية في طرح مواقف وآراء تعزز النقاشات بصدد عدد من القضايا المجتمعية، وتسهم في نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والسعي لإيجاد إجابات لعدد من الإشكالات، وطرح مجموعة من الحلول الكفيلة بتجاوز المعضلات المختلفة التي تواجه المجتمعات.
لقد تأثر حضور المثقف بمواقفه وإنتاجاته الفكرية والفلسفية والعلمية سلباً أو إيجاباً تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها المجتمعات والدول، ولطبيعة وموقع هذه النخب نفسها، وتبعاً لموقف صانعي القرار السياسي منها في هذا الخصوص.
ما زال الهدر سيد الموقف في المنطقة المغاربية بفعل جمود الاتحاد المغاربي، ووجود مشاكل بين أعضائه، وبخاصة في ما يتعلق بالعلاقات بين المغرب والجزائر التي تعيش على إيقاع القطيعة منذ سنوات. وهو ما يجعل مستقبل المنطقة مشوباً بكثير من المخاطر العابرة للحدود وبكثير من الأسئلة، فرغم الإمكانات المذهلة المتاحة لبلدان المنطقة على مستوى الموقع الجغرافي والتاريخ المشترك، والخيرات الطبيعية والإمكانات البشرية الهائلة.. ما زالت الروابط التجارية والاقتصادية بينها؛ تسجل أدنى مستوياتها على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ويبدو مستقبل المنطقة ضبابياً في ظل هذه الأوضاع، التي يتم فيها توريث المشاكل والأحقاد للأجيال المقبلة، في زمن يشهد فيه العالم تحولات كبرى، مرتبطة باعتماد خيارات التكتل والتنسيق، وبتنامي التهديدات العابرة للحدود في أبعادها الأمنية والصحية والاقتصادية والسياسية، واستهداف المنطقة بأجندات وتدخلات خارجية يصعب مواجهتها بشكل فعال في سياق خيارات قطرية ضيقة.
وتتزامن هذه الأوضاع مع تصاعد خطابات شعبوية يقودها بعض «مؤثثي» و«مؤثري» شبكات التواصل الاجتماعي، بصورة تكرس الحقد والعداء بين شعوب المنطقة، في تنكر تام للروابط الحضارية التي تجمعها.
خطابات شعبوية يقودها بعض «مؤثثي» و«مؤثري» شبكات التواصل الاجتماعي،
بصورة تكرس الحقد والعداء بين شعوب المنطقة، في تنكر تام للروابط الحضارية التي تجمعها.
لا شك أن هذه المستجدات والتطورات، تطرح مسؤولية كبيرة أمام النخب المثقفة، باتجاه التحسيس بخطورة الوضع، وبحجم الخسائر التي تتحملها دول المنطقة والأجيال القادمة نتيجة، والضغط باتجاه اتخاذ صانعي القرار لخيارات بناءة وفي مستوى اللحظة التاريخية التي لا تحتمل الصمت والتفرج أو الاستمرار بالعيش في برج عاجي، بعيداً عن انشغالات وهموم الناس، أو تبرير السياسات الارتجالية التي تقدم عليها بعض النظم في المنطقة رغم خطورتها.
حقيقة أن المشهد الثقافي في البلدان المغاربية ما زال بعيداً عن مواكبة التحولات الكبرى والمتسارعة التي تشهدها المنطقة والعالم على عدة مستويات، كما أن علاقة المثقف بالسلطة ما زال يشوبها الكثير من الالتباس والشك، في ظل واقع مغاربي سمته تراجع مكانة الفكر والمعرفة في مقابل بروز «مؤثّرين رقميين»، غطّوا بنقاشاتهم التي كثيراً ما تطبعها السطحية والشعبوية عن النقاشات الفكرية الجادة.
ومع ذلك، فالظرفية المغاربية بإشكالاتها وتحدياتها، أصبحت تتطلب المواكبة الفكرية والتفاعل الإيجابي، وذلك بإنتاج الفكر النقدي الذي يسهم في تطوير المجتمعات، وتنوير العقول، في إطار من الحرية والمسؤولية، من خلال فتح نقاشات واجتهادات فكرية تسهم في تنشئة المجتمع وفي توجيه النصح والنقد البناءين لصانع القرار السياسي.
إن ما حققته البلدان الأوروبية من مكتسبات كبرى على مستوى تحقيق التنمية والديمقراطية وبناء تكتل واعد، جعلتها تقطع مع سنوات الحروب والصراعات المكلفة، تتبوأ مكانة عالمية وازنة، لم يكن صدفة، بل كان حصيلة لمجموعة من المبادرات والجهود التي بدأت أول الأمر بترسيخ فكر متنور منفتح على المستقبل، انخرطت فيه بشكل كبير النخب المثقفة والفلاسفة الذين أغنوا بإسهاماتهم الفكر الإنساني، ومهدوا الأجواء لقيام ثورات فكرية وسياسية واقتصادية تجاوز صداها الفضاء الأوربي.
إن المفارقة التي تعيش على إيقاعها المنطقة المغاربية، بين مقومات عديدة تفرض التنسيق والتعاون، مقرونة برغبة شعبية عارمة في التواصل والعيش في سلام وطمأنينة في مغرب كبير منفتح، ومن جهة ثانية، تبرز أن هناك حاجة جدّ ماسة إلى أصوات مثقفة عاقلة ونخب فكرية مسؤولة تجهر برفض الواقع الذي تؤجّجه أصوات تورّث الأجيال القادمة مزيداً من الحقد والكراهية، في تجاهل تام لكل الروابط الحضارية والدينية والتاريخية التي تجسد المشترك بين شعوب المنطقة.
إن حالات الانتظار والترقب التي تعم المنطقة، تتطلب حراكاً فكرياً مغاربياً حقيقياً، ينبذ خيار القطيعة في زمن المخاطر والأزمات التي يمر منها العالم في الوقت الراهن، وما يترتب عن ذلك من إشكالات اجتماعية وسياسية واقتصادية وغذائية وأمنية، والتي تفرض نهج العمل الجماعي وتحصين الذات في إطار تكتلات قوية، واستثمار كل المقومات المتاحة لكسب رهانات التنمية، والاستجابة لانتظارات المواطنين وقضاياهم الحقيقية