بقلم/ ثروت زيد الكيلاني
تشكل المؤسسات التربوية محورًا مركزيًا في التنمية الشاملة والمستدامة، ويقع على عاتقها تعزيز البراعة الأكاديمية للطلبة إلى جانب التكيف الاجتماعي والعاطفي، وتلعب دورًا محورياً في إعداد قادة المستقبل القادرين على المناورة في تعقيدات العالم المتغير، والمساهمة في بناء مجتمع أكثر إنصافًا وتماسكًا، من خلال تزويد الطلبة بمجموعة متكاملة من المعارف والمهارات الجوهرية إضافة إلى الذكاء العاطفي والاجتماعي، ما يُمكّن الطلبة من المساهمة بفاعلية في تشكيل مجتمعاتهم لمستقبل أكثر استدامة وازدهارًا.
إن انتهاكات السلطة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) المستمرة للحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها الحق في التعليم، التي نصت عليها القوانين الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجرائمها المتتالية بما في ذلك التطهير العرقي والتهجير القسري، والإبادة الجماعية، سواء كان ذلك في قطاع غزة أو الضفة الغربية بما فيها القدس، وقرصنة أموال السلطة الوطنية الفلسطينية، قد أثرت بشكل كبير على البنية التحتية التعليمية وعلى قدرة المعلمين والطلبة من الوصول إلى المؤسسات التعليمية بشكل منتظم، كما أن جائحة COVID-19 وما تبعها من خلخلة للنظام التعليمي بسبب انقطاع الرواتب بشكل كامل ومنتظم، أدى إلى تفاقم الفجوة التعليمية في فلسطين مقارنةً بالمستويات العالمية وبما هو مخطط له، وما زالت تواجه فلسطين تحديات هائلة في محاولة تقليص الفجوة التعليمية والحفاظ على مستوى التعليم رغم الظروف الصعبة التي تمر بها.
تلعب المدارس التي تعطي الأولوية للتنمية الشاملة دوراً حاسماً في تمكين الطلبة بمجموعة مهارات شاملة، إضافة إلى الإنجازات الأكاديمية، ولتحقيق الترابط بين الجوانب المختلفة لنمو الطفل، لا بد من خلق بيئة تغذي التنمية الشمولية للطفل في المجالات كافة، واستناداً إلى ذلك فإن القضاء على فجوات التعلم أصبح مهمة غير قابلة للتفاوض، وأن كل طالب يستحق فرصة عادلة للتطور والازدهار، ما يجعل سد هذه الفجوات وضمان عدم تأخر أي فرد عن الركب التزاماً لا لبس فيه، حيث وفر التقدم التكنولوجي والاتصالات فرصاً أكثر في الوصول للمعلومات، فمعالجة فجوات التعلم ليست مجرد ضرورة أخلاقية، بل هي الأساس في تحقيق التنمية الشاملة، وأولوية لمستقبل أكثر إنصافاً، حيث تتطلب وظائف الغد قوة عاملة متعلمة بعمق وماهرة وقابلة للتكيف.
في ظل مشهد عالمي سريع التطور، يعد التركيز على النمو الشامل حاجة مهمة وملحة لتزويد الطلبة بمتطلبات النجاح والتفاعل في بيئات متنوعة، وتمكينهم من المعارف والمهارات كالتفكير النقدي، وحل المشكلات، واتخاذ القرار، والتواصل الفعال، والقيادة والعمل الجماعي، والمرونة، والتعلم مدى الحياة، وترتبط هذه المهارات بامتلاك الذكاء العاطفي، كالتفهم والتعاطف مع الآخرين، وإدراك المشاعر الخاصة والتعبير عنها بوضوح، والتحفيز والتعامل الإيجابي مع التغيير، وتتطلب أيضاً امتلاك الذكاء الاجتماعي، مثل القدرة على التواصل الفعال، والتفاوض، والتعاون، وبناء علاقات تعاونية، والتكيف مع المواقف المختلفة والتعلم من الآخرين، وخاصة في حالة التعليم المقاوم الذي تمثله الخصوصية الفلسطينية، وتَمثُل قيم وطنية راسخة تدمجها في ذواتها لتتناقلها جيلاً بعد جيل.
أضحى الاعتراف بأن الطلبة يتعلمون بطرق متنوعة أكثر وضوحاُ، وأن نهج المقاس الواحد في التعليم لا يمكنه تلبية أنماط التعلم المتنوعة، ولا يناسب الطلبة جميعهم، وأن كلّ طالب هو عالم فريد بحدّ ذاته، وأن المفتاح لإطلاق العنان للإمكانات الفريدة لكل طالب، يتمثل في التعلّم المصمم خصيصاً للفرد، من خلال التعرف إلى الاحتياجات الخاصة لكل متعلم والتكيف معها، وتوظيف التكنولوجيا وطرق التدريس المبتكرة لتلبية تفضيلات التعلم المتنوعة وتسريعه، بما يضمن عدم تأخر أي طالب عن الركب.
إن التركيز على التعلم المتمايز ليس مجرد اتجاه، بل هو تحول أساسي في التعليم، يمكّن الطلبة من ضبط رحلة التعلم الخاصة بهم، ويعمق لديهم الشعور بالملكية والمشاركة، بما توفره التقنيات التكيفية والمحتوى المخصص والوتيرة المرنة في بيئة تعليمية حاضنة لنمو الطلبة وازدهارهم، ويلعب المعلمون دورًا محوريًا كميسرين، حيث يوجهون الطلبة من خلال المنهج الدراسي بما يتوافق مع أساليب التعلم الفريدة الخاصة بهم، ويسهم في تشكيل المشهد التعليمي الذي يشهد تحولاً تحويلياً يركز على النمو الشامل خارج الحدود التقليدية للفصل الدراسي، ويتجاوز مجرد الإنجازات الأكاديمية، ليشمل الجوانب الجسدية والفكرية والعاطفية والاجتماعية والأخلاقية للطلبة، ويؤكد على تعزيز قيم المواطنة المسؤولة من خلال إعداد الطلبة لتعقيدات العالم الحقيقي.
وفي هذا السياق وفي ظل عالم سريع الخُطى، الوقت فيه سلعة ثمينة، ولتحقيق أقصى قدر من التأثير، وبما يتماشى مع مبادئ نظرية الحِمل المعرفي التي توفر إطارًا مفيداً لفهم كيفية معالجة المتعلمين للمعلومات، وتساعدهم على توظيف المعرفة بشكل أكثر فعالية، فقد تزايد التركيز على التعلم المصغر كأداة تربوية قوية في المشهد التعليمي، بما يتضمنه من تقديم محتوى تعليمي في وحدات قصيرة ومركزة في أي وقت وفي أي مكان، تلبي احتياجات المتعلمين الذين يبحثون عن الكفاءة والفعالية؛ ما يعزز ثقافة التعلم المستمر، ويجعل ذلك حلاً مثالياً للمهنيين والطلبة أثناء التنقل، ومن لديه جدول أعمال مزدحم، خاصة بعد ظهور الأجهزة المحمولة والمنصات الرقمية.
يشهد قطاع التعليم تركيزا متزايداً على نماذج التعلم الهجين، مما يطمس الحدود التقليدية بين غرفة الصف الدراسية العادية والافتراضية، حيث تمزج نماذج التعلم المختلط بسلاسة بين المكونات الشخصية وعبر الإنترنت، وأن تكامل التكنولوجيا يسهل تجارب التعلم الديناميكية والتفاعلية، والوصول إلى الموارد والتعاون مع الأقران والمشاركة في الدورات الدراسية بالسرعة التي تناسبهم بعيداً عن قيود الإعدادات التقليدية، ويسمح بتخصيص تجربة التعلم الخاصة للطلبة، بما يلبي احتياجاتهم المختلفة، ما يجعل الحاجة إلى المرونة في التعليم أكثر أهمية من أي وقت مضى، ومواءمته مع المتطلبات المعاصرة لمجتمع متصل عالمياً، حيث تبني النماذج الهجينة إطاراً تعليمياً قابلاً للتكيف يضمن إمكانية الوصول للتعليم على المدى القريب والاستراتيجي، مدفوعة بالعديد من العوامل مثل التقدم التكنولوجي، وتفضيلات المتعلم المتنوعة.
شهدت السنوات القليلة الماضية تحولات في التعليم، تسارعت بسبب تحديات جائحة COVID-19، حيث أصبح التعليم عبر (الإنترنت) عنصراً ثابتاً دائماً، وشكلت الأدوات والتطورات الرقمية بيئة تعليمية مرنة ومشبعة بالتكنولوجيا، ويشير الارتفاع في التعلم عن بعد إلى تحول نحو الشمولية، وزيادة في فرص الحصول على التعليم، وهذا يتطلب مبادرات مدعومة من الحكومة ودعم المدارس بالمستحدثات التكنولوجية بما يواكب التقدم التكنولوجي، ويؤدي إلى زيادة الالتحاق بالمدارس وانخفاض معدلات التسرب، والتركيز على التعلم المتمايز والنمو الشامل والتعلم المصغر والنماذج الهجينة والقضاء على فجوات التعلم، والتأكيد على حقبة تحويلية في التعليم، والالتزام بإنشاء مشهد تعليمي شامل وقابل للتكيف مدفوعاً بالتكنولوجيا، وإعداد الطلبة للتكيف في نسج سرد تعليمي ديناميكي للمستقبل، ما يتطلب تطوير التشريعات والسياسات التعليمية الداعمة للتعلم المتمايز والشامل، وتخصيص الموارد المالية اللازمة، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة والجاذبة، وغيرها، ورفع مكانة الكادر التعليمي مهنياً ووظيفياً، وتطوير التشريعات لاستقطاب الكادر الأفضل، واستحداث نظام مساءلة وحوافز لأغراض التحسين.