عندما ردد الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين مقولته المشهورة ” إما أنا ، أو الحسن الثاني ” ، لم يكن يدري أو يتصور ما يخبئه القدر، سواء بالنسبة له شخصيا ، أو بالنسبة للرجل الذي حوله إلى عدو له في معركة أراد لها أن تكون فاصلة يخرج منها منتصرا مؤزرا ٠.
مدلول هذه العبارة رددها الرئيس هواري بومدين وبمختلف الصيغ في خطبه النارية ، بعد أن كشف عن مكنون سريرته ، لكنه قالها مختصرة في كلمات قصيرة – كما روى ذلك المناضل بودركة – ” إما أنا ، أو الحسن الثاني ” , وهو يخاطب قادة الجناح الثوري من المعارضة المغربية الذين كانوا لاجئين في الجزائر، ظنا منه أنه سيجد فيهم من يتنكرون منهم لوطنهم ، ولا يقتصرون في نشاطهم على معارضة الحكم كما يمارسه النظام القائم ٠ لكن بومدين لم يجد لديهم التجاوب الذي سعى إليه عندما استدعاهم للقائه ، كما لم يجد في أحد أفراد تلك الفئة من المعارضين المغاربة ، وأعني به المرحوم باهي محمد حرمة المنحدر من الصحراء الموريتانية ، الأستجابة للعرض المغري ليكون قائدا للإنفصاليين الصحراويين ، وليتولى رئاسة الكيان الصحراوي الوهمي الذي كانت الجزائر تستعد لخلقه وألإعلان عن قيامه ٠
ولقد تم أختيار المرحوم باهي لما كان يتوفر عليه من مزايا ، قلما اجتمعت في غيره ، ولكن هذا الاختيار سقط٠ ووقع الإختيار في الأخير على مصطفى السيد المنحدر من الصحراءالمغربية والمنتمي لتك المجموعة من شبان الجامعات المغربية الثوريين ٠ وتم الاغراء أيضا بموطن موريتاني يدعى بابا مسكي فأسند إليه منصب وزير خارجية الكيان الصحراوي الوهمي، وسرعان ما اختفى دون معرفة السبب ٠
حدث ذلك ضمن المخطط الذي تم تبنيه على عجل من طرف الرئيس هواري بومدين ، في محاولة للحيلولة دون أن يتحقق على أرض الواقع ، ما تم التوصل إليه من اتفاق مع إسبانيا ٠ ولقد كانت الجزائر تبدو آنذاك وكأنها تسابق الزمن لعرقلة تطبيق بنود أتفاقية مدريد المبرمة يوم ١٤ نوفمبر ١٩٧٥ ، وهي الإتفاقية التي عكست النتائج الباهرة للمسيرة الخضراء المتمثلة في تحرير الصحراءمن الإستعمار الإسباني ٠
وكم كان مؤلما أن تتفتق عقلية الرئيس هواري بومدين عن تلك المأساة التي سماها ( المسيرة السوداء ) ، والتي تم بمقتضاها ترحيل عشرات الآلاف من المغاربة بمن فيهم الأطفال والنساء من التراب الجزائري ، وفي ظروف طبيعية قاسية صادفت فصل الشتاء وفي يوم عيد الإضحى ، وذهبت السلطات الجزائرية إلى حد فصل الأزواج والأطفال عن أسرهم لإختلاف جنسية الأزواج ٠ ولقد كان الهدف من هذه التصرفات الإجرامية محاولة إرباك المسؤولين المغاربة في التعامل مع ما تبقى من مراحل المسيرة الخضراء ، فلم يتحقق لبومدين ما كان يستهدفه ،
وكما تأكد ، فإن المغرب تمكن من تحمل صدمة طرد مواطنيه من الجزائر،وبتلك الكثافة بفضل روح التضامن التي برهن عنها المواطنون المغاربة ٠
لم يكن الرئيس هواري بومدين يتصور، وهو في أوج قوته البدنية وفي اندفاعه ، ما يخبئه له القدركعقاب على المأساة التي عرض لها المنطقة ،عن طريق تعبئة قدرات وإمكانيات الدولة الجزائرية ، البشرية منها والمادية ، في المواجهة الشرسة التي فتحها ضد المغرب بوجه مكشوف ، بعد ان ظل يخفي ما يضمره من أجل إحباط مسعى المغرب لتحرير صحرائه من الأستعمار الإسباني ٠إذ باغثه القدر بعقاب قاس ، فأصابه مرض ظهرت بوادره وهو في زيارة حليفه حافظ الأسد بدمشق ، وعجز الطب والأطباء السوفيات على الخصوص عن معالجته من المرض الذي عجل بموته يوم ٢٧ دجنبر ١٩٧٨ ٠
وعلى عكس ما حصل للرئيس الجزائري ، فقد أراد الله أن يمد في عمر الملك الحسن الثاني عشرين سنة بعد أختفاء غريمه الذي سعى للإطاحة به ٠ ولم يكن الرئيس الجزائري ليخجل من التصريح علانية بذلك وهو رئيس دولة ويحتم عليه منصبه ، أن لا يدعو علانية الجيش المغربي على الإطاحة بالنظام الملكي ، وبواسطة الخطب النارية التي كان يحرص على إلقائها في محافل رسمية مشهودة ويسعى إلى تعميمها ليضفي عليها صبغة رسمية ٠.
لقد شاء القدر وبإرادة من الله العلي القدير أن يتاح للملك الحسن الثاني رحمه الله من الوقت ما مكنه من قيادة تلك المعركة الضارية ، فلم تقتصر نتائجها بالنسبة للمغرب على إجهاض ما أعلن عنه على عهد هواري بومدين ، بل امتد مفعولها الإيجابي ليجهض أيضا كل ما قرره وصنعه الرجال الذين حرصوا ، على ما يبدو على تطبيق ما قرره زعيمهم الراحل في حياته ٠ وهكذا فشلت حرب العصابات في انتزاع ما حققته المسيرة الخضراء المظفرة ، واحتفظ المغرب بوحدته الترابية ٠
ولقدأمد الله في عمر الملك الحسن الثاني عشرين سنة بعد وفاة هواري بومدين ، وألهمه جلت قدرته فكرة إنجاز إحدى المعجزات الدفاعية التي أصبحت تدرس في الأكاديميات العسكرية الدولية ، وتتمثل في الجدار الأمني الممتد على مسافة تفوق ألفي كيلوميتر ، وفيما يتطلبه تدبير شؤونه من رجال وعتاد بعد تشييده وتحصينه ٠
لقد شهد الصراع المغربي– الجزائري أخطر مرحلة في الفترة الفاصلة بين دجنبر ١٩٧٥ ، وهوالتاريخ الذي أطلق فيها الرئيس هواري بومدين مقولته ” إما أنا ، أو الحسن الثاني ” وما بين دجنبر ١٩٧٨ ، وهو تاريخ وفاته ، إذ كاد المغرب والجزائر أن يدخلا في حرب ضارية مباشرة نتيجة توغل القوات الجزائرية في الصحراء المغربية
والواقع أن معارك أمغالا كانت تنذر بنشوب تلك الحرب ٠ ومن لطف القدر أن الله أرشد المرحوم الملك فهد عاهل السعودية الى القيام بوساطة بدت وكأنها حالت دون قيام حرب بين البلدين ٠ لكن يبدولي حسب الإندفاع الذي كان عليه الرئيس هواري بومدين ، أن النظام الجزائري لم يتراجع إلا لأنه أدرك بعد الإنكسار الذي منيت به قواته في أمغالا ، أن الجيش الجزائري لم يكن يتوقع الخروج سالما من أية معركة جديدة ، فبالأحرى الخروج بانتصار على الجيش المغربي ٠ وقد تأكد للجزائريين أن القوات المسلحة الملكية كانت قد تمكنت من خلال تأطيرها للمسيرة الخضراء من أن تمتلك القدرة على المواجهة بما يضمن لها الفوز ،بواسطة ما أقامته من المنشآت والمراكز التي يتطلبها التوفر على اللوجيستيك الحربي ، في حين كانت القوات الجزائرية بعيدة عن قواعدها بالأضافة إنعدام الحافز الوطني الذي كان لدى الجيش المغربي .
بيد أنه رغم كل ما حصل لا يمكن إغفال كون الجزائر حققت مكاسب في ميدان المواجهة السياسية على عهد قيادة هواري بومدين ، إضافة إلى حصولها على المساندة الدبلوماسية من المعسكر السوفياتي غير المأسوف عليه ، ومن بعض الدول التي تسير في ركبه أو تناصره ٠ وهذه المكاسب هي التي شجعت رجال الحكم الذين تولوا السلطة بعد وفاة قائدهم ، ودفعت بهم وما تزال إلى تصعيد المواجهة الدبلوماسية ، وتغذية نزاع الصحراء عن طريق تعبئة فلول الإنفصاليين وتسليحهم وإيوائهم لينطلقوا من التراب الجزائري ٠.
إنه بالرجوع إلى الإوضاع التي كانت سائدة قبل نشوب نزاع الصحراء ، فإن ما كان قد تجمع لدى الدوائر العليا المغربية ولدى الأمريكيين على الخصوص عن النوايا المبيتة ، كما كانت قد بدت من تحرك الدبلوماسي الأمريكي الداهية الراحل هنري كيسنغير سنة ١٩٧٤ ،الذي ربما تنبأ بما وقع ، أعتمادا على المعلومات المتوفرة لديه عن تحركات الجزائر في المنطقة مع وجود الإستعمار الإسباني ٠ ولم يكن غريبا أن يتحول ذلك الصراع الذي يتم في الخفاء بين الدوائر العليا إلى مواجهات مفتوحة ، بعدأن تراجع الرئيس هواري بومدين عن التعهدات التي أعلن عنها في محافل إقليمية ودولية ، أو انتزعت منه ، وقدمها للملك الحسن الثاني ( ليرقده في الغر ) كما نعبر عن ذلك بالدارجة المغربية ٠ وكانت آخر محاولة للتمويه قام بها بومدين قد تمت في يونيو ١٩٧٥ ، حينما جاء عبد العزيز بوتفليقة ، وهو وزير الخارجية الى الرباط حاملا رسالة اطمئنان إلى جلالة الملك من رئيسه ، وصرح علنيا للصحافة بأن الجزاير تساند المغرب في مسعاه لاسترجاع صحرائه ٠.
بيد أن الرئيس هواري بومدين سرعان ما كشف عن مكنونه بعد سماعه لخطاب الملك الحسن الثاني يوم 16 أكتوبر 1975 ٠ ويحكي الكاتب والصحفي الفرنسي الراحل جان دانييل صاحب جريدة ( نوفيل اوبسيرفاتور) في مذكراته ، بانه كان في لقاء مع بومدين الذي تجمعه به صداقة خاصة ، وما أن أعلن الحسن الثاني عن تنظيم المسيرة الخضراء ،حتى فقد بومدين التحكم في أعصابه وبدأ يشتم ويسب العاهل المغربي ويتصرف كفتية حي باب الواد المشهورين بجنوحهم ٠
وهكذا تحول هواري بومدين وفي فترة وجيزة من مساند للمغرب من أجل تحرير الصحراء ، إلى عدو يناصبه العداء ، لأنه رأى في النجاح المتوقع للمسيرة الخضراء نسفا للمخطط المبيت الرامي إلى خلق كيان صحراوي ، ورأى بأن مثل هذا الكيان سيكون مطية لتصبح الصحراء المغربية تحت السيطرة غير المباشرة للجزائر، وليكون ذلك وسيلة لبسط الهيمنة على المنطقة المغاربية ٠
وإذن لم يكن غريبا بالنسبة للمغرب المتيقظ أن يخون هواري بومدين تعهداته للملك الحسن الثاني ، وهو الذي سبق له أن خان العهد والتحالف مع رفيقه في الحكم ، المجاهد أحمد بنبلة وأطاح به في انقلاب عسكري ٠ كما لم يكن ذلك غريبا منه ، وهو الذي تمت على عهده تصفية عدد من قادة الثورة المسلحة الجزائرية ، كان أبرزهم المرحوم كريم بلقاسم الذي ترأس المفاوضات مع فرنسا من أجل استقلال الجزائر ، والذي اغتالته المخابرات الجزائرية في فرنكفورت بألمانيا ، مثلما أغتيل المجاهد المرحوم خيضر على يد عملائها في مدريد بإسبانيا ٠.
قد يقول قائل من الجزائريين كمبرر : لقد تصرف الرئيس هواري بومدين وفعل ما فعل ، من أجل أن يرسي أسس دولة جزائرية قوية بنظامها ، وإقامة نظام يضمن تدبير الشؤون العامة بما يخدم تنفيذ مخططات النهوض بالبلاد ٠ وقد يقول أخرون بأن تصرفه إزاء المغرب كان بهدف أن يفرض عليه ما تقتضيه الحلول التي تراها الجزائر مناسبة لها في كل ما يتعلق بمشاكل الجوار ٠ وكلا المبررين يكشفان عن الروح المكيافيلية التي لا تقيم وزنا لا للأخلاق ولا لقيم التعامل السياسي النبيل في المجتمعات وبين الدول ، ناهيك إذا ما كان الأمر يتعلق بالتعامل مع دولة شقيقة وجارة .
واذن فلا غرابة أن يصدر ذلك عن نظام عسكري ، كما أرسى قواعده الرئيس هواري بومدين وأراد له الإعتماد على أجهزة المخابرات العسكرية التي ظلت وما تزال مهيمنة على الحياة السياسية بمختلف مظاهرها ٠ كما لا غرابة أن يفشل نظام كهذا في تحقيق أية نهضة اقتصادية أو اجتماعية في البلاد ، ناهيك عن تحقيق تعايش الجزائر مع محيطها الجغرافي ٠ ولا يسع المجال هنا لشرح ما آلت إليه علاقات الجزائر مع جيرانها غربا وجنوبا وشرقا ، حيث ظلت حدودها معهم مغلقة في أغلب الأحيان ٠
إن من يمعن النظرفي الوضع الأقتصادي للجزائر كما هو حاليا في ظل تحكم وهيمنة المؤسسة العسكرية الذي استمر لعقود كثيرة ، سيتساءل أين أنفقت مئات الملايير من الدولارات ،يوم كانت البلاد تعرف بحبوحة مالية من عائدات المحروقات ، قلما توفرت لكثير من الدول ؟ ٠
وكما هو واقع الحال ، فإن الشعب الجزائري يعيش على الوعود التي يصعب الوفاء بها ، وأن فئات واسعة تعيش على الخصاص ، وأن البلاد تشكو من عدم تأمين عدد من المواد الأساسية بما فيه الكفاية ، وأن المياه والكهرباء تتعرضان للإنقطاع حتى في عاصمة البلاد ٠
وبعد ، ماذا كانت نتيجة ومصير مقولة الرئيس هواري بومدين ” أنا أو الحسن الثاني ” ؟.
سأترك الجواب لمن يريد استخلاص الدروس والعبر من الأوضاع السائدة حاليا في المنطقة ٠ وقد تتاح لي الفرصة للعودة إلى الوضوع ٠ أما الآن فإنني أختم مقالي بترديد النشيد الذي يتغنى به المواطنون المغاربة في كل وقت وحين وأقول :
العين عيني
والساقية الحمرا لي
والواد وادي يا سيدي
نمشيو ف الطريق السلامة
الله والنبي والقرآن معانا