كان يوم الاثنين الماضي يوماً مشهوداً في تاريخ أوروبا المعاصرة، فقد استيقظ الناس فيه على وقع صدمة حصول اليمين المتطرّف على نتائج متقدّمة في انتخابات البرلمان الأوروبي. توجّه نحو 51 في المئة من أصل أكثر من 360 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع في 27 دولة أوروبية لانتخاب 720 نائباً أوروبياً، فنتج من ذلك برلمان أكثر يمينية من سابقه. فاليمين بصفة عامة، المتطرّف منه والمعتدل، حقق اختراقات جعلت منه القوة السياسية الأساسية في البلدان الأوروبية الرئيسية.
فما هي التحدّيات الكبرى التي تنتظر البرلمان الأوروبي الجديد؟ وكيف ستكون علاقته بالمفوضية الأوروبية؟ وماذا عن علاقته بالمحيط المغاربي، ولاسيما المغرب؟
المعروف أنه كانت هناك دائماً مواجهة حقيقية بين البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، وبالتالي فإن وطيس هذه المواجهة سيحمى لا محالة بعد تسيّد اليمين بشقيه في المجلس التشريعي الأوروبي، الذي اعتبر نفسه دائماً صاحب الشرعية لأنه منتخب، بينما المفوضية الأوروبية هي عبارة عن مؤسسة موظفين.
في سياق ذلك، تنتقد الكثير من المجموعات السياسية داخل البرلمان الأوروبي البيروقراطية أو ما تحاول المفوضية، من خلال مفوضيها وموظفيها، القيام به، أي الاستيلاء على السلطة في أوروبا من دون الأخذ في الاعتبار الشرعية الديموقراطية التي تعود – أولاً وقبل كل شيء – للبرلمان الأوروبي.
ومع وصول اليمين المتطرّف الذي لا يؤمن بأوروبا الفيدرالية بقدر ما يؤمن بأوروبا الأمم و الشعوب، ستكون المواجهة أعنف مع المفوضية الأوروبية ورئيستها أورسولا فون دير لاين أو من سيخلفها، وفي الغالب سيُعاد انتخابها، مع العلم أن دير لاين تنتمي إلى حزب الشعب الأوروبي اليميني المعتدل.
تبقى المواجهة واردة لأن اليمين المتطرّف واليمين الكلاسيكي كانا دائماً ضدّ جعل اختصاصات المفوضية في تزايد، أي على حساب السيادات الوطنية.
هذا المعطى يظل أساسياً جداً لفهم التوازنات السياسية الداخلية بين البرلمان الأوروبي المنتخب والمفوضية الأوروبية بموظفيها المعينين من طرف الدول، ليبقى الصراع في الأخير قائماً بين مفهومين: الأول يتعلق بمفهوم أوروبا الفيدرالية الذي يدافع عنه اليسار ومن يؤمنون بأوروبا، كما أحدثت، وأهدافها، لا سيما بعد معاهدة لشبونة؛ والمفهوم الثاني الذي تدافع عنه الأحزاب اليمينية ويرفض انصهار شخصية الأمم والشعوب في قالب إداري تديره مفوضية لا شرعية انتخابية لها.
إن معاهدة لشبونة التي دخلت حيز التنفيذ في كانون الأول (ديسمبر) 2009، أعطت صلاحية أكبر للبرلمان الأوروبي لسن القوانين، فلم يعد مجرد برلمان استشاري، بينما أعطت المفوضية الأوروبية صلاحية أكبر في اتخاذ القرار، بمعنى أنها أخذت من صلاحيات الدول وسيادتها ونقلتها إلى المفوضية والبرلمان.
بدورها، شكّلت معاهدة ماستريخت المحطة الأولى في مسار البناء الأوروبي، إذ جرى توقيعها في 25 آذار (مارس) 1992، ودخلت حيز التنفيذ في أول تشرين الثاني (نوفمبر) 1993. فهي التي وضعت أسساً لبنية قوية للاتحاد الأوروبي من خلال العملة الأوروبية الموحّدة.
هناك نقطة أساسية لا يجب إغفالها في سياق تحليل نتائج الانتخابات الأوروبية، هي أن البريكست الذي عرفته بريطانيا كان درساً لجميع الدول التي راودتها فكرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لا سيما عندما رأت الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها بريطانيا. ومن هنا، ألفت نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في الاستراتيجية المستقبلية التي كانت الأحزاب اليمينية تدعو لها، لا سيما الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنظومة “اليورو”.
وعلى الرغم من التشبث بالفلسفة التي يدافع عنها اليمين المتصدّر للمشهد الأوروبي، فإن براغماتيته دفعته إلى التمسك بالبقاء في حضن الاتحاد الأوروبي والتمسك بعملته الموحّدة، لأن خروج أي دولة من منظومة اليورو، والتعامل بعملتها الوطنية الخاصة، يعني بداية الرحلة نحو الانهيار.
جرى لمس ذلك بشكل واضح مع وصول جورجيا ميلوني، رئيسة حزب “أخوة إيطاليا” اليميني المتطرّف إلى الحكم في إيطاليا، والتي أصبحت بعد توليها مقاليد الحكم “أوروبية” أكثر من الأوروبيين الحقيقيين، لأنها فهمت أن المقاربة الأمنية أو محاربة الهجرة السرّية، على سبيل المثال، لا يمكن لإيطاليا أن تقوم بها وحدها. ومن هنا، تبرز ضرورة العمل المشترك بين الدول الأوروبية.
بالنسبة إلى المغرب، يُعدّ انتصار المعسكر اليميني بصنفيه مكسباً له، نظراً إلى أن هذا المعسكر سيعمل على توجيه أولويات جدول أعمال البرلمان الأوروبي نحو القضايا التي تتماشى مع صورة المغرب وأصوله والتزامه تجاه الاتحاد الأوروبي، مثل الهجرة والأمن والدفاع وتأمين الحدود. إضافة إلى ذلك، تمتلك هذه المجموعات اليمينية تقليدياً أكبر مجموعات من المؤيّدين للمغرب، ما يعزز مساحة المناورة المتاحة له، على الرغم من بعض الضغوط التي تطاله بشأن بعض القضايا، مثل الهجرة وإدماج المغتربين.
إن النتيجة الجيدة التي حققها حزب الشعب الأوروبي وحفاظه على مكانته كتجمع سياسي رئيسي داخل البرلمان الأوروبي، عاملان إيجابيان بالنسبة إلى المغرب، نظراً إلى أن هذه المجموعة اليمينية كانت دائماً الداعم الرئيسي له.
ويسود اعتقاد واسع أن رئيسة المفوضية الأوروبية دير لاين أثبتت على مدار السنوات الخمس الماضية صدقيتها ودعمها للمغرب، وبالتالي سيكون وجودها في إدارة المفوضية الأوروبية في المرحلة المقبلة مفيداً له أيضاً.
أهمية صعود المعسكر اليميني تشكّل معطى إيجابياً بالنسبة إلى الرباط، فهذا الصعود يعزز التشكيلات التي أظهرت باستمرار قربها من مصالحها ورفضها الأطروحات الانفصالية المناوئة لوحدة ترابها.
بدوره، يشكّل تراجع معسكر اليسار أمراً جيداً للمغرب، حيث سيبتعد مركز ثقل البرلمان الأوروبي وأولوياته عن الذرائع الواهية والمبالغ فيها التي كانت تُستخدم في السابق لمهاجمة المغرب، من قبيل حقوق الإنسان، وحرّية التعبير، والحرّية الفردية.
علاوة على ذلك، فإن الإخفاقات التي مُني بها اليسار المتطرّف في إسبانيا (سومار وبوديموس)، والنتيجة الضعيفة التي حصل عليها حزب الخضر (4 مقاعد) تصبّ أيضاً في صالح المغرب، وتقلّل من مجموعة المؤيدين لجبهة البوليساريو الانفصالية.
إن المركز الثاني الذي فازت به المجموعة الاشتراكية، التي حافظت دائماً على موقف متباين لكن إيجابياً بشكل عام تجاه المغرب، يعدّ بدوره معطى إيجابياً، كما يعدّ الأداء الضعيف للاشتراكيين في ألمانيا، باعتبارهم الداعمين التقليديين للانفصال، أمراً إيجابياً ملحوظاً.
شكّل تراجع حزب الخضر الذي خسر 19 مقعداً أيضاً معطى إيجابياً بالنسبة إلى المغرب، نظراً إلى دعمه التقليدي الإنفصاليين المسنودين من الجزائر، وميله أيضاً إلى الترويج للقضايا التي تُثير حساسيته.
إن الإشكاليات التي ستطغى اليوم في علاقات الاتحاد الأوروبي مع محيطه، لاسيما المغاربي والشرق أوسطي، كما سبق الاشارة إلى ذلك، تكمن في الهجرة السرّية ومحاربة شبكات الجريمة المنظمة العابرة للقارات، ناهيك بالإشكاليات الاقتصادية المتمثلة في استيراد المنتوجات الفلاحية من دول تنخفض فيها تكاليف الإنتاج والأجور، وتعرف ضعفاً في مجال الحماية الاجتماعية، الأمر الذي يخلّ بقواعد المنافسة الشريفة بالنسبة إلى قطاعي الفلاحة والصناعة، وأيضاً في باقي المجالات الأخرى في أوروبا.
لذلك يعتقد كثيرون أن البرلمان الأوروبي الجديد سيكون أكثر تطرّفاً وصرامة في التعامل مع موضوع الحمائية الجمركية، مثلما سيكون أكثر تطرفاً في تقنين الهجرة، سواءً من خلال ضبط منح التأشيرات، أو مراجعة القوانين التي تؤطّر فضاء “شينغن” وترشده.
معنى هذا أن أوروبا تتجّه نحو انعزالية أكبر، وتخوف أكبر من المنافسة الخارجية للدول.
وعلى الرغم من جنوح القارة العجوز نحو اليمين والانعزالية، فإنها تحرص على نهج مواقف براغماتية. فإشكاليات حقوق الإنسان والبيئة مثلاً ليست ضمن أولويات اليمين الأوروبي. ومن ثم، لا مفرّ أمام أحزاب اليمين المتطرّف، التي دعت خلال حملاتها الانتخابية إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، من أن تكون أكثر واقعية وبراغماتية. فخطاب المعارضة لا يتماهى في كثير من الأحيان مع واقع ممارسة السلطة.