مع اندلاع الأزمة الدائرة حالياً بين القوات المسلحة الروسية والجيش الأوكراني في أوكرانيا، بدأت تُطرح العديد من الأسئلة حول تأثير هذه الحرب في الدور الروسي المؤثر منذ سنوات في منطقة الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء.
سعت روسيا الاتحاديَّة، منذ وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحكم، لبلورة سياسة خارجية جديدة تروم العودة بقوة إلى السّاحة الدوليّة، في إطار ما سُمي بـ”مبدأ بوتين”، وإيجاد موطئ قدم لها في العديد من المناطق في العالم، ومنها القارة الأفريقية، بعد أن كانت السياسة الخارجية الروسية في عهد الرئيس بوريس يلتسين منكفئة على نفسها، بسبب الأزمات العديدة التي كانت روسيا تعانيها آنذاك، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.
وقد شكّلت القمّة الأفريقية الروسية التي عُقدت تحت رئاسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي، والتي عرفت حضور العشرات من رؤساء الدول الأفريقية في مدينة سوتشي في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2019، إيذاناً بعودة روسيا نحو القارة الأفريقية، من خلال عقد اتفاقيات تعاون مشترك بين روسيا والدول الأفريقية في كلِّ المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها، ولم تشكّل دول غرب أفريقيا استثناء من هذا التعاون.
وقد حظيت الاتفاقيات العسكرية بالنصيب الأوفر من هذا التعاون، إذ أبرمت روسيا عدداً من الاتفاقيات العسكرية التي شملت كلاً من مالي وموريتانيا وبوركينافاسو، ولا سيّما أن هذه الدول تعاني معضلات أمنية، وعلى رأسها قضية محاربة الإرهاب، بسبب نشاط المجموعات الإرهابية المسلحة، إذ تعمل شركة “فاغنر” الأمنية على محاربتها في بعض الدول، مثل مالي، بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به الدول الغربية في محاربتها، وخصوصاً فرنسا، التي أعلنت انسحابها من مالي في ظلِّ سخط رسمي وشعبي عليها، ما جعل الطريق ممهّدة لروسيا لملء الفراغ، وخصوصاً أنَّ قوات “فاغنر” أصبحت تحظى بتأييد شعبي ورسمي، في ظلِّ قدرتها على التصدي للجماعات الإرهابية المسلحة.
علاوةً على ذلك، أصبحت الأسلحة الروسية تحتلّ الصدارة داخل السوق الأفريقية. إذاً، تشير آخر المعطيات الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أنَّ مبيعات الأسلحة الروسية إلى دول القارة بلغت نحو 37.6%، إذ تحتلّ الرتبة الأولى، تليها الولايات المتحدة وفرنسا والصين، فضلاً عن العلاقات الوطيدة الّتي أصبحت تربط روسيا بالأنظمة العسكرية التي وصلت إلى الحكم في تلك الدول، وهذا إن دلّ على شيء، إنما يدلّ على الدور المهم الّذي بات يؤدّيه الروس في المنطقة.
وإذا عدنا إلى الأسباب التي جعلت حكّام الدول الأفريقية يوجّهون بوصلتهم نحو روسيا، فإننا سنجد أبرزها السياسات الغربية تجاه بلادهم والتدخل في شؤونها الداخلية، عبر تشجيع الانقلابات والثورات وإطاحة زعماء تابعين لها.
كما أنّ الشقّ الاقتصادي لم يخلُ من أجندة التعاون بين روسيا وهذه الدول التي يزخر باطن أرضها بالعديد من الموارد والثروات الطبيعية الهائلة، التي تتمثَّل بالنفط واليورانيوم والألماس والغاز الطبيعي والنحاس والمنغنيز، والتي تعدّ موضع أطماع الدول الكبرى، كالصين والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، إضافةً إلى الكيان الصهيوني، بسبب الامتيازات الجبائية التي توفرها تلك الدول للشّركات الأجنبية المستثمرة، ما يجعلها نقطة جذبٍ استثماريّ لها، وهو ما دفع روسيا إلى محاولة إيجاد مكان لها بينهم.
وتأسيساً على ذلك، إنّ الوجود الروسي في غرب أفريقيا لم يكن ينظر إليه بعين الرضا والارتياح من لدن الساسة الغربيين، إذ أصبحوا ينظرون إلى الحضور الروسي بوصفه مصدر قلق وازعاج لهم وتهديداً لمصالحهم، على اعتبار أنه أصبح يزاحمهم هناك، وخصوصاً فرنسا، الدولة الاستعمارية التقليدية في المنطقة، التي تعتبر تلك الدول حدائق خلفيّة لها لا يجوز لأحد الاقتراب منها.
يبدو أنَّ السيناريو الَّذي رسمه أصحاب القرار في الدول الغربية يتمثل بإنهاك روسيا في حرب طويلة الأمد مع أوكرانيا، بحيث يتم احتواؤها جيوسياسياً وتفتيتها وإعادتها إلى مربع الصفر، كما كانت في عهد الرئيس يلتسين، ما يحدّ من تأثيرها في الساحة الدولية، في سيناريو مشابه يعيد إلى الأذهان حرب أفغانستان أثناء الحقبة السوفياتية. وبالتالي، يسمح للقوى التقليدية الاستعمارية بالعودة إلى تعزيز نفوذها مجدداً في هذه المناطق.
رغم ذلك، واستناداً إلى المسارات العسكرية والسياسية التي تطبع الأزمة في أوكرانيا، فإنَّ المخطط المرسوم من طرف القوى الغربية بدأت إرهاصات فشله الذريع تلوح في الأفق، مع توالي الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش الروسي على الأرض الأوكرانية، وعدم تأثر روسيا حتى الآن بالعقوبات الاقتصادية الشّاملة التي فرضتها الدول الغربية عليها، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، اعتقاداً منها بأنَّ ذلك سيحدّ من تأثيرها ونفوذها في العالم، بل أتت هذه العقوبات بنتائج عكسية صبّت في مصلحة روسيا.
والأكثر دلالةً على ذلك هو تعزيز روسيا حضورها في شرق البحر الأبيض المتوسط، بإرسالها عددا من قطع الأسطول البحري الروسي إليه، شملت العديد من المدمرات والفرقاطات والغواصات، في رسالةٍ واضحةٍ إلى الغرب بأنّ روسيا، رغم عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ما زالت حاضرة في كلِّ المناطق، ولن يثنيها ذلك عن ممارسة أنشطتها في أيِّ بقعة من العالم.
ختاماً، وبناءً على ما ذُكر أعلاه، نصل إلى استنتاج مفاده أنَّ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لن تؤثر في الوجود الروسي في دول غرب أفريقيا، سواء في المديين المتوسط أو البعيد. ويبدو أنها تسير نحو نصر روسيّ، ما يعجّل بظهور نسق جديد متعدد الأقطاب، في مقابل تقهقر النسق الأحادي القطبية الذي ساد لسنوات طويلة، وهو ما تتطلّع إليه غالبية الشعوب والأنظمة.