دار الضو”الزنزانة أيا حبيبي”
دار الضو”الزنزانة أيا حبيبي”شخصية غامضة ومثيرة في حي بودراع،تركت بصمتها على فضاء”دار الضو”واستطاعت أن تزيد من شهرتها وتستقطب عددا كبيرا من ساكنة المدينة،وأن تلمع صورتها،وتجعلها محجا وقطبا للكثيرين من الوافدين عليها،إنه شخصية ميمون المنحدر من منطقة تاوريرت بالشمال الشرقي للمغرب بين مدينة الناظور ووجدة.
شاب في العقد الثالث من عمره،أسمر اللون،قوي البنية،مفتول العضلات،جميل الملامح،ومن عينيه ينبعث ذكاء حاد.
عرفناه وأحببناه،ومع مرور الايام ألفناه،وإن كنا لانعرف كيف وفد إلى تادلة؟ومن أقله إليها؟طيلة نهاره يجوب شوارع وأزقة حي بودراع،يركض كحصان حرون،لايتعب ولايكل،ولايطرق قلبه السأم او الملل.
حضوره في الحي،ملأ كل البياضات،وشغل القلوب والعقول،وجذب إليه انظار الشباب والنساء والكهول والشيوخ،بالرغم من إجماع ساكنة حي بودراع على أنه احمق مجنون،مختل العقل،مرفوع عنه القلم.ميمون في لحظة صفوه ،حين لايكدر عيشه الصغار،يطلق عقيرته بالغناء،مصدرا صوتا حزينا يقطع نياط القلوب،ويحرك أشد القلوب قسوة قائلا( بغيت أمي أياوليدي…بغيت با أيا وليدي)..وكانت كلمة اوليدي يقوم بتفخيمها تارة وترقيقها تارة اخرى فتبكي بعض العيون لبكائه.لڜهور طويلة وهو يطوف بين الأزقة والدروب،حتى قادته الصدفة الى دار الضو ببلوك2 ، فوجد فيها راحته، ومما زاد في طمأنينته،تسلمه من بعض المحسنين بعض البطانيات والافرشة، فاصبحت دار الضو وجهته وقبلته يلوذ بها كلما تعب من استفزازات الصغار، وجور المراهقين، واحتقار الشامتين من وضعه النفسي، وغربته الملتبسة.اعجب ميمون بدار الضو، واجمل ما أعجبه فيها هو ازيز المحرك الكهربائي الذي يشبه هدير الطائرات، ولم يكن هذا البهلول يعرف مصدر هذا الصوت الصادر من داخل دار الضو، ولكن هذا الأزيز والهدير اصبح مصدر فرحه، ومنبع غبطته، وفي عز يأسه، وابتعاده عن دار الضو، يشده الحنين إليها، ويهرول نحوها مسرعا، ويلحق به مجموعة من الصغار والصبايا، وحين يقف امام دار الضو يردد بصوت جهوري”الزنزانة وياحبيبي”ويردد الصبية نفس اللازمة على شكل هتاف متبوع بتصفيق.لقد وجد أهل بودراع في هذا البهلول ضالتهم وغايتهم وغيهم، فبكوا لبكائه، وفرحوا لفرحه، ومن فمه تخرج الكلمات متقطعة تارة، ومتصلة تارة أخرى، فتتهدج اوداجه، ولعلها ذكرى جرح قديم، او ذكرى موجعة لأحبة يعرفهم ولانعرفهم، ومن اجلهم احترقت كبده، وانفطرت مرارته، لصبابة الوجد،وهيام القلب.
دار الضو، انتعشت بحلول ميمون بين جدرانها، وسرت بأنسته لها، وإزالة الوحشة عنها.
في الهزيع الأول من الليل،كنت أسمع صوته وهو يردد لازمته المعهودة”والزنزانة ايا حبيبي”ولولا خوفي وخوف الصغار من الوالدين، للحقنا به وساندناه في شعاره، عفوا لازمته. بعض المشككين في شخصية ميمون البهلول، قالوا عنه انه مخبر، وان مجيئه لتادلة لم يكن وليد الصدفة وانما هو يشتغل مع المخابرات، وكنت ادخل في جدل مع المشككين مؤكدا لهم ان الرجل مجرد معتوه، ومنذ ان عرفناه وهو يمشي حافيا،بشعر أشعت ولعاب يسيل من فمه، وبأظافر متسخة فكيف يكون هذا المجنون مخبرا؟.
لقد رأيته يقلد اصوات الات الحفر من بلدوزر وبوكلان ودكاكة..ولمحو الشك وتبديد مخاوف المشككين، لاحظت ان ميمون يختفي مرتين في الشهر، وبعدها يعود الى سالف عاداته.ألفناه واحببناه، واصبح ملح سمرنا، وبحضوره القوي امتلأت دار الضو بالوافدين والطفيليين للتعرف اكثر على ميمون،وحين يحاصره البعض بأسئلتهم التي تكاد تصيب منه مقتلا، ينتفض كالجمل، فيشرع إلى رجمهم بالحجارة بلارحمة، فيهربون من امامه محتمين بدار الضو ملكة المكان وسلطانة المقام.
ولاختباره اكثر منحته يوما سيجارة شقراء غالية الثمن،قلت له دخنها،لكنها اخفاها في صدره وأجابني:هذه السيجارة لاتستحق أن تدخن في الطريق وبين العوام،بل تدخن في أماكن مخصصة تليق بمكانتها “ساعتها علمت ان الرجل ليس مجرد بهلول.هل كان ميمون مخبرا حقيقيا ام مجرد بهلول يلقي بالكلام على عواهنه؟هل كان تلفظه بالزنزانة مجرد صدفة ام اختيار سياسي ونضالي؟هل قصد تادلة لأنه مبحوث عنه؟ام انه الباحث عن مناضلين محتملين او واقعيين…حين تم اعتقال أبن الفقيه سي عبدالسلام واختطافه بالليل،وحين عثرت على كتبه حول الماركسية اللينينية التي رماها بالحاوية ذات مساء شتوي .تأكدت مما لايدع للشك من يكون ميمون؟ يتبع….