قبل أيام، أعلن الرئيس التركي على هامش قمة شنغهاي للتعاون التي انعقدت قبل أيام في العاصمة الكازاخستانية أستانا، استعداد بلاده للوساطة بين روسيا وأوكرانيا بشأن إيجاد تسوية مقبولة ترضيهما، وهو ما رفضته موسكو بشدة على لسان المتحدث باسم الرئاسة الروسية فيتالي بيسكوف أمام سؤال طُرِحَ عليه في تصريح تلفزيوني حول إمكانية قيام أنقرة بهذا الدور، ما يطرح السؤال حول خلفيات التحفظ الروسي حول الوساطة التركية.
كما هو معلوم، تعد الوساطة في العلاقات الدولية عملية دبلوماسية ترمي إلى إيجاد حل دائم وعادل للنزاعات بين دولتين أو أكثر من خلال التفاوض والوساطة بدلاً من اللجوء إلى القوة العسكرية، وهي تُعتبر إحدى أدوات السياسة الخارجية التي تستخدمها الدول والمنظمات الدولية والممثلون الخاصون لتحقيق تسوية سلمية للنزاعات الدولية.
ولإنجاح عملية الوساطة لا بد من توافر العديد من الشروط في الوسيط الدولي أهمها الاتصاف بالحيادية والنزاهة وألا يكون منحازا لهذا الطرف او ذاك بخصوص القضية المتنازع حولها، وعلى قدر كبير من الثقة والاحترام من لدن كل الأطراف المتصارعة، كما يتعهد بتنفيذ الضمانات التي قد يقدمها لهم خلال المفاوضات وألا يخل بها بعد ذلك، من أجل الحصول على مكاسب على حساب أحدهم. وهذه المعايير لا تتوافر في القيادة التركية، لماذا؟
إذا تتبعنا، مسار العلاقات الروسية التركية منذ أيام القياصرة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجدها في كثير من الأحيان تتسم بالتعاون أو الصراع أو التشابك في العديد من الملفات التي تندرج في إطار ما يسمى بالبراغماتية السياسية، وهذا أمر مسلم به في العلاقات الدولية التي تتنوع تفاعلاتها بالعناصر الثلاث المذكورة.
كما أن السياسة الخارجية التركية التي يتبناها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تتسم بالتقلب وعدم الثبات في المواقف خصوصا إذا تعلق الأمر بمصلحته، ولعل الوساطات التي قامت بها تركيا في العديد من بؤر الصراع سواء في الشرق الأوسط أو في شمال أفريقيا وحتى في القوقاز بقيت دون حل بل استغلتها -أي الوساطة – لتحقيق مصالحها بشهادة المراقبين.
أما بخصوص العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا فقد اتسم الموقف التركي بإدانة الهجوم الروسي، ودعم أوكرانيا لعضوية حلف الشمال الأطلسي، مع تزويد الأخيرة بمعدات عسكرية شملت طائرات مسيرة من نوع ّ”بيرقدار تي بي 2″ و “بيرقدار أكنجي” – وذخائر عنقودية حسب بعض التقارير الغربية التي تنفيها أنقرة – انطلاقا من وضعية تركيا كدولة عضو في حلف الشمال الأطلسي، أضف إلى ذلك إعلانها بناء مصنع للأسلحة بمدينة لفيف الأوكرانية مخصص لإنتاج الطائرات المسيرة ومعدات عسكرية أخرى، وهو ما تجسد فعلا بعد توقيع الحكومة الأوكرانية في تشرين الأول/أكتوبر 2024، مع شركة “بايكر” التركية المتخصصة في صناعة الطائرات المسيرة بما فيها ذات التكنولوجيا المتقدمة.
وليس هذا فحسب، فقد نقضت تركيا تعهداتها في قضية مقاتلي “أزوف” الأوكرانيين البالغ عددهم حوالي 228 مقاتلا التي أسرتهم القوات المسلحة الروسية في ماريوبول، بعد حصارها لمصنع “أزوف سطال” في إِثْرِ استسلامهم في 16 مايو/أيار 2022، إذ سارعت أنقرة بعد ذلك إلى إطلاق سراحهم في 15 يونيو 2023 بعد تعهدها بإبقائهم لديها إلى حين انتهاء الحرب بين موسكو وكييف، وهو ما جر عليها غضب المسؤولين الروس الذين نددوا بالموقف التركي معتبرين إياه خرقا للاتفاقيات الدولية.
خلاصة القول، لا ترى موسكو في تركيا وسيطا نزيها يُمَكِّنُهَا من القيام بها بينها وبين أوكرانيا، بالنظر الى السوابق التركية في التعامل مع الأزمات الإقليمية التي أشرنا إليها أعلاه من جهة، والحرب الروسية الأوكرانية من جهة ثانية، لذلك يرفض الكرملين الوساطة التركية في الصراع مع أوكرانيا.