“أنا لا أخسر أبداً، فإما أن أربح أو أتعلم”- نيلسون مانديلا
بقلم: عبدالحق الريكي
التقيت بالصديق أحمد. لمن لا يعرف أحمد، فهو صديق المرحلة الطلابية، مناضل صلب وما زال رغم تغير الظروف. قارب السبعين من عمره ورغم كونه لم يعد قادراً على الحركة كما كان ذات يوم، إلا أن عقله يعمل كما كان في الماضي.
أتلقى به كل صيف. هذه المرة حكى لي حكايات غريبة. وكالمعتاد طلبت منه أن يسمح لي بكتابة كل ما تطرقنا له، ليس لأنه لا يعرف الكتابة، فهو كاتب لامع يكتب مقالات علمية رصينة ويعتبر ما أكتبه لا فائدة ترجى منه. رغم ذلك ألححت على تدوين أفكاره، أو جزءاً مما أختزنه، لأن اللقاء كان ودياً، حبيًّا، تحكمه الصداقة بيننا ولم يكن لقاءً صحفياً قط.
العالم أصبح يحكمه الغرباء، القضاة يحكمون، مختلف الأجهزة، الإدارات… القاعدة البرجوازية المتمثلة في فصل السلطات الثلاث لم تعد صالحة اليوم، لذا هنالك حكم للقضاة كما هو الحال في الولايات المتحدة وإسبانيا، وحكم لمختلف الأجهزة والإدارات في المغرب… وحتى لا يُؤوّل كلامي، فجل الحكومات المنتخبة لا تحكم كما في الماضي… يجب خلق “براديغم” أو منظومة جديدة لحكم الشعب.
وفي هذا الإطار، فإن كل شيء تغير في المغرب ما بين ملكين، بما فيهم الدستور، إلا أن شيئاً واحداً لم يتغير فهو المنظومة الانتخابية.
فما زال المغرب ينتخب حسب الطريقة التي أنتجها الراحل إدريس البصري، في نهاية سبعينيات القرن الماضي. لا أعرف إن كان هذا الأمر صحيحاً أم لا، قلت له. أجاب السيد أحمد، أن المعارضة الاتحادية في أوجها لم تستطع تغيير هذا الأمر، وكل مرة تقوم وزارة الداخلية بمراجعة أجزاء من هذه المنظومة، في اتجاه التراجع عن المكاسب كما وقع في الانتخابات الأخيرة. (هذا الأمر يتطلب بحثاً من طرف القارئ).
ومن بعد عرج أحمد على الانتخابات الفرنسية. ماذا قال في هذا المجال. لا تستعجلوا فإن تحليله يخرج عن المعتاد. قال: هل تعرف أن فرنسا تعد القوى اليسارية الأولى في العالم، وأن ما يقع في فرنسا سيكون تأثيره على كل القوى في العالم بما فيهم الولايات المتحدة. أتعرف ما يقع في فرنسا؟ هل هو تراجع عن ثورة العمال والفلاحين لثورة روسيا سنة 1917 أو ثورة الفلاحين في الصين سنة 1949؟ لأن ما يطالب به حزب “فرنسا الأبية” داخل اليسار هو ثورة المواطنين عبر المؤسسات. (فهل هذا صحيح أيها القارئ؟).
ثم عرج أحمد على إفريقيا. (انتظرت ما يقول حول هذه القارة). قال: تعرفني أنني منذ زمان وأنا قارئ للجرائد، سواء الوطنية أو الأجنبية، ورغم الحصار المضروب على بعض الجرائد الوطنية فإنني وجدت ضالتي في جريدة مسائية يومية صادرة من مدينة الدارالبيضاء. وجدت مقالا مهماً حول “السكري الذي سيقتل إفريقيا”… ما أثرني هو “قتل إفريقيا”، فبحثت في الموضوع فوجدت الخبر صادقاً رغم اختلافاتنا مع تحليل الكاتب. ما قاله الكاتب صحيح “… الأرقام المقدمة مرعبة، والأشد رعباً منها المنحنى التراكمي الذي تتخذه… والذي سيجعل السكري قادراً لوحده على أن يطيح بكل آمال التنمية الإفريقية.” ويقدم كاتب المقال المهم عدة أرقام منها “في دول جنوب الصحراء… سترفع حصتها بنسبة 98 في المائة في سنة 2030.
بحثت في الموضوع، يقول أحمد، وجدت ضالتي في المجلة الفرنسية “العلم والحياة” *”Science et Vie”* حيث جاء ما يلي : في عددي شتنبر 2023 ويونيو 2024، وانطلاقاً من المجلة العلمية البريطانية *The Lancet*، ما يقع مثلا في مصر (وهي جزء كبير من إفريقيا) حيث غلاء المعيشة ما بين المواد الصحية وغير الصحية هو سبب السمنة والسكري، وتقدم هذه الدراسة رقماً مخيفاً كون “46 في المائة من سكان مصر (يعانون) من السمنة”. وتزيد المجلة العلمية البريطانية ما يلي : في أمريكا حيث “الفوارق” المجتمعية “صارخة” يسجل أعلى معدل للسمنة وأنه مثلا في المكسيك ومنذ دخول حيز التنفيذ اتفاق التجارة الحرة سنة 1994 ما بين الولايات المتحدة والمكسيك، تم استيراد السمنة من أمريكا الإمبريالية.
دائماً في قراءة الجرائد، وجدت في جريدة “لوموند” الفرنسية بتاريخ الخميس 04 يوليوز 2024، مقالا بالصفحة 11 تحدث عن كيف خلق الصراع الانتخابي ما بين اليمين المتطرف واليسار تشتتاً في الجسم الانتخابي الفرنسي. المقال تحدث عن إطار بنكي، وكيف كان صاحبه يخفي قناعاته عن البنك الذي يعمل فيه وعن مرؤوسه وعن أيضاً كل العاملين معه. وذكرني هذا الأمر بما عاناه الأطر البنكية الكونفدرالية مع باطرونا الأبناك هنا في المغرب، حيث كان جل الرؤساء غير مستعدين للحوار مع أطر كانت تعرف الاقتصاد والأبناك أكثر من بعض المدراء. وللحديث بقية يقول أحمد…
وانعرج أحمد إلى قضية أخرى، كون بعض الأجهزة وبالضبط الجهاز الخارجي يعاكسه منذ سنة 2001، إن كان قراراً للجهاز فتلك مصيبة كبرى لأن أحمد أصبح غير قادر على الحركة، أما إن كانت القضية مرتبطة ببعض الأشخاص الذين يستغلون منصبهم للنيل من أحمد لاعتبارات معينة، فتلك مصيبة أكبر. هذا الموضوع كان حديث أحمد وأنا في مرات كثيرة. وكنت أقول له دائماً، ما يعانيه رئيس حزب “فرنسا الأبية” الفرنسية كبير جداً ومنشور في الإعلام. كان موقف أحمد، واضحاً هذه المرة، لا مجال لمقارنته بالشخصية الفرنسية، وكما قال لي صديق، الخطر آتٍ من الشباب المتحكم في المعلومات والدرون، لا من الشيوخ مثلي الذين يصوتون منذ 1982، رغم كونهم معارضين لبعض الأساليب.
قلت له في الأخير، وأنا عارف بنفسية صديقي أحمد الذي لا يتأثر بهذه الخزعبلات، إنه كما قال نيلسون مانديلا “أنا لا أخسر أبداً، فإما أن أربح أو أتعلم”، أو ما قاله روبيرت سي. كالاجر “حتى وإن سقطت على وجهك، فأنت لا تزال تتحرك إلى الأمام”، أو كما قال زعيم حزب “فرنسا الأبية” في خطاب أمام الطلبة “الليلة نحن لائقون. ثم هناك أيام نكون تعيسين. وأحياناً نشعر بالوحدة قليلاً… عندما ينتابك هذا الشعور بالوحدة، عندما يغمرك طوفان الإهانات التي تلمسك، والتي تهاجمك، والتي تنكرك، فإننا بالطبع مجهزون لمقاومتها. لكن أيها الأصدقاء… كم هو جيد أن تفكر فيك، عندما لا يكون هناك شيء يسير على ما يرام، لتخبر نفسك أنهم موجودون هناك. وسوف تقول إنني كنت هناك. شعرنا بالقوة لدرجة أننا على يقين من أننا سننجح”. وجدت هذا الكلام، كوني أعرف أن صديقي أحمد، يعجبه كثيراً رئيس حزب “فرنسا الأبية”… ولتلطيف الجو استعمل صديقي أحمد، نكتة الفرنسي نعيم: “حين قال كيف لي أن أنتحر من الطابق الخامس وأنا أقطن في الطابق السفلي”.
مشتاق لصديقي أحمد، وأتمنى أن ألتقي به في مناسبات عديدة. وهذا نزر قليل من لقاء دام ساعات وساعات مع أحمد.