كشفت دراسة أمريكية حديثة أجريت قبل محاولة الاغتيال الأخيرة التي تعرض لها المرشح الحالي للرئاسة والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أن ما يقرب من 10 بالمائة من البالغين الأمريكيين، أي ما يعادل 26 مليون شخص، يؤيدون استخدام القوة لمنع ترامب من أن يصبح رئيسا، فيما يؤيد 7 بالمائة من البالغين الأمريكيين، أي ما يعادل 18 مليون شخص، استخدام القوة لإعادة دونالد ترامب إلى الرئاسة، وهو ما يؤكد وجود اصطفاف حقيقي لفئتين على الأقل داخل المجتمع الأمريكي، والحدود الفاصلة بين هاتين الفئتين آخذة في التضاؤل، وهو ما دفع مشروع شيكاغو للأمن والتهديدات، الذي أصدر الدراسة، وهو معهد أبحاث في الشؤون الأمنية الدولية أسس في عام 2004 في جامعة شيكاغو، للتنبيه إلى أن التعبيرات المتزايدة عن تأييد العنف السياسي داخل الولايات المتحدة، قد تضفي الشرعية على تحركات الذئاب المنفردة لاتخاذ خطوات فعلية من أجل التوجه بشكل عملي إلى العنف.
وفي حوار أجرته الإثنين 15 يوليوز الجاري، مجلة “لوغران كونتينان” الصادرة عن مجموعة الدراسات الجيوسياسية بباريس، مع عالم السياسية الأمريكي روبرت بيب، المشرف على الدراسة الآنفة الذكر، أكد هذا الأخير على أن الانقسام في الرأي العام الأمريكي وصل إلى درجة تنامي مشاعر العداء، بين فريق يعتقد أنه إذا وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فسيكون ذلك نهاية الديمقراطية الأمريكية، ومجموعة تعتقد أن الديمقراطية قد تم تخريبها بالفعل من خلال ما يسمونه سرقة انتخابات عام 2020، تاريخ فوز جوزيف بايدن بمنصب الرئاسة، هذا العداء يغذيه بحسب روبرت بيب، تنامي شعور واسع النطاق بأن الناخبين لم يعد بإمكانهم التأثير على التغيير السياسي من خلال صناديق الاقتراع، وأن قوى غامضة ستعمل على منع إجراء انتخابات حرة ونزيهة، منبها إلى أنه عندما يشعر الناس بأنهم لا يستطيعون التأثير على مسار الأمور أو على حياتهم من خلال صناديق الاقتراع، فإنهم يبدأون في البحث يائسين عن وسائل أخرى لإحداث التغيير، وتكمن المشكلة في أن العديد من هؤلاء المحبطين يمتلكون الأسلحة، في بلد تشكل العديد من ولاياته استثناء عالميا بسماحها للأفراد بامتلاك السلاح.
إن ثقافة السلاح هذه هي جزء من الانقسام الثقافي الأمريكي، فمعسكر الماغا، Make America Great Again، الذي ينتمي إليه دونالد ترامب، يقاوم إلى حد كبير أي شكل من أشكال السيطرة على الأسلحة نصف الآلية مثل بندقية AR-15، البندقية الأكثر شعبية في الولايات المتحدة، وهي نفسها التي استخدمت في إطلاق النار على ترامب يوم السبت 13 يوليوز الماضي.
وبالعودة إلى نتائج الدراسة السالفة الذكر، فإن الأرقام التي خلصت إليها تتحدث عن فئة تتكون من 26 مليون شخص، في مواجهة فئة أخرى قوامها 18 مليون شخص، بمعنى وجود أكثر من 40 مليون أمريكي بالغ، يدعمون العنف السياسي في الولايات المتحدة، كثير منهم مسلحون أو يسهل عليهم الحصول على الأسلحة، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول تزايد شروط الوقوع في براثن حرب أهلية، صحيح أن الصراع السياسي في المجتمع الأمريكي لا زال إلى حد الآن على الأقل تحت السيطرة، لكن أحدا لا يستطيع الجزم باستحالة الانجرار إلى مواجهات أكثر عنفا.
وشهدت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة العديد من الحوادث التي تحولت بالفعل إلى مواجهات عنيفة، تعد الأكثر حدة منذ ستينيات القرن الماضي، حيث تحولت 7 إلى 10 بالمائة من الاحتجاجات إثر حادثة مقتل جورج فلويد إلى أعمال شغب خلال صيف عام 2020، وبعد أقل من عام، ومن بين 100 ألف شخص خرجوا في العاصمة واشنطن العاصمة في 6 يناير 2021، أثار عدة آلاف أعمال شغب عنيفة وهاجموا مبنى الكابيتول، كما حدثت زيادة في هجمات الذئاب المنفردة في السنوات الأخيرة، في الجامعات والمدارس والأماكن العامة، فضلا عن العنف الذي واجهت به مجموعات مؤيدة لإسرائيل جموع المتظاهرين الداعمين للقضية الفلسطينية خلال العام الحالي.
وتزايدت التهديدات ضد أعضاء الكونجرس إلى خمسة أضعاف منذ العام الأول لإدارة ترامب، في عام 2017، واستمر ذلك طوال فترة إدارة بايدن، مع زيادة سنوية متصاعدة، وعلى مدار الفترة من 2017 إلى 2023، زاد عدد هذه التهديدات الموثقة خمسة أضعاف مقارنة بالفترة 2001-2016، مع ضرورة التذكير أن هذه الزيادة في التهديد موزعة بالتساوي بين أعضاء الكونغرس الديمقراطيين والجمهوريين.
لكن هذه الأحداث وغيرها، لا تشكل بالنسبة لروبرت بيب، سوى تعبير عن الدخول في ما أسماه “حقبة الصراع الأهلي”، فيما لم تصل حالة الاحتقان في المجتمع الأمريكي حسب منظوره إلى درجة الحرب الأهلية، خاصة بعد القضاء خلال السنوات الأخيرة على أكثر العصابات المنظمة والمسلحة القابلة للتحول إلى ميليشيات، وتوقف معظمها عن العمل بسبب إضعاف بنيتها وسمعتها السيئة، لكنه لا ينفي بالمقابل أن ما يسميه بالصراع الأهلي قد يتصاعد إلى مستويات أكثر عنفا بكثير مما كان معروفا من قبل في الأشهر المقبلة، منبها إلى أنه لا أحد يمكنه توقع ما كان يمكن أن يحدث من فوضى في البلاد لو أن الرصاصة التي أطلقت على ترامب كانت قد تسببت في اغتياله بالفعل.
وتتأثر السياسة الأمريكية والمصادر الرئيسية للعنف السياسي في جميع أنحاء الولايات المتحدة بحالة الانقسام الحادة داخل المجتمع جراء رؤية ذات خلفيات عنصرية أو قومية منكمشة على فئة اجتماعية محددة، فمن بين 10 بالمائة من الجمهور الذي يؤيد استخدام العنف والقوة لمنع ترامب من أن يصبح رئيسا، وفق نتائج دراسة معهد شيكاغو، يعتقد أكثر من نصفهم أن الولايات المتحدة عنصرية بشكل منهجي، بمعنى العنصرية ضد الأقليات غير البيضاء، ومن ناحية أخرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الـ 7 بالمائة الذين يؤيدون استخدام العنف لإعادة دونالد ترامب إلى الرئاسة، فإن حوالي ثلاثة أرباع هذه المجموعة يعتقدون أن الحزب الديمقراطي يسعى عمداً إلى استبدال البيض الناخبين بالسكان المنحدرين من العالم الثالث.
وبعد محاولة اغتيال دونالد ترامب، يبدو أن ما يقع في الولايات المتحدة اليوم، هو نوع من التراكم الذي يؤشر إلى وصول حالة الاحتقان الداخلي في الولايات المتحدة إلى مستوى أصبحت فيه لغة السلاح وسيلة لحسم الانقسام، حتى وإن أدى ذلك إلى المساس بأعلى مستويات القرار في البلاد، وهو أمر ليس بجديد في الولايات المتحدة.
يحكي الصحفي والسياسي والديبلوماسي الكولومبي فرانسيسكو سانتوس، أنه قبل ست سنوات، في شتنبر 2018، عندما كان سفيرا لكولومبيا لدى الولايات المتحدة، فوجئ في جلسة مع مستشاري الاتصالات في سفارة بلاده بواشنطن، بوجهة نظر متشائمة حينها من فرانسيس أوبراين، مؤسسة مجموعة فراتيلي الأمريكية الرائدة في مجال الاستراتيجيا وإنجاح السياسات العامة، عندما قالت له “أشعر وكأنني في عام 1859″، وهي السنة التي اندلعت فيها أولى شرارات الحرب الأهلية الأمريكية التي اشتد أوارها بين عامي 1861 و 1865، سأل سانتوس محدثته: “على شفا الحرب الأهلية ؟”، أجابته فرانسيس أوبراين دون تردد: “نعم”.
صحيح أنه لا يوجد انقسام حاد في الولايات المتحدة مثل ذلك الذي وقع عام 1860 بين الشمال والجنوب، لكن المؤكد أن أقوى الديمقراطيات في العالم نجت بأعجوبة، مع نجاة ترامب من محاولة الاغتيال، من فوضى عارمة من الصعب التنبؤ بنتائجها.