الاعلامي جمال المحافظ: شهد ودموع في ذكرى رحيل الصحفي المساري
تحل يوم الخميس 25 يوليوز 2024، ذكرى رحيل الصحفي والكاتب والدبلوماسي والوزير محمد العربي المساري (1936- 2015 ) التي تشكل فرصة لاستحضار الخصال النبيلة التي ظل يتمتع بها قيد حياته، ومنجزه في حقول معرفية متعددة استثمار الأفكار والقضايا التي رافع من أجلها خاصة في مجال الاعلام الذي استشعر مبكرا أدواره الحاسمة في توسيع هوامش حرية التعبير، والبناء الديمقراطي وحقوق الإنسان والتنمية.
وإن كان المساري، قد رحل جسدا، فإن ما خلفه من تراث غني، يظل نبراسا تسترشد به الأجيال المتعاقبة، وانحيازه الكلي وبدون تحفظ لقواعد النزاهة الفكرية والاستقلالية، وتغليب الهواجس المهنية، على ما سواه، متابعا جيدا لكل ما هو جديد على المستوى الفكري والابداعي والصحفي، وهذا ما كان يستلهمه ويضمنه في كتاباته ومساهماته، خاصة خلال مروره على رأس وزارة الإعلام ما بين 1998 و2000، وقبلها حينما كان كاتبا عاما للنقابة الوطنية للصحافة المغربية ما بين 1993 و1998.
إن الإعلامي المسلح بالكفاءة والنزاهة الفكرية، يمكن أن تكون له مساهمة رئيسية في بلورة ثقافة جديدة في مغرب حديث ناهض مؤهل لربح رهانات المستقبل، لكن هذا يتطلب أن يأتي الشباب إلى هذه المهنة وهم واثقون من أنها تضمن لهم عيشا كريما ومستقبلا مضمونا، كما كتب المساري لدى تقديمه في التقرير الأدبي أمام الجمع العام الثالث للنقابة الوطنية للصحافة المغربية في سنة 1996 مستدلا في ذلك بما توقعه المفكر عالم المستقبليات المهدي المنجرة ( 1933 – 1914 )، منذ أربعة عقود، بأن ثورة الأمم، لن تعود تعتمد على المواد الأولية، وأن الاستثمار في الإعلام وأدواته ينبئ عن ثورة قوامها، أن الثروة ستعتمد على اللامادة.
اصلاح شمولي
إن هذا الاتجاه هو ما يتكرس الآن باقتصاديات الدول المتقدمة، وذلك في ظل الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، حيث أضحى إنتاج الإعلام والمعرفة، يحتل مكانة استثنائية في المداخيل، وأحيانا المكانة الأولى في التصدير، من هذا المنطلق ظل المساري يراهن طوال حياته على الأدوار التي يمكن أن يضطلع بها الاعلام في حالة اخضاعه لإصلاح شمولي، خاصة السمعي البصري الذي بمقدوره أن يتحول إلى قاطرة للاعلام، شريطة أن يتمكن من تحقيق المصالحة مع الجمهور، الذي يمر عبر تكريس المهنية والتعددية والاستقلالية والشفافية مع استيعاب التحولات الجارية والمتغيرات في مزاج الرأي العام وحاجياته في مجالات الاخبار والتثقيف والترفيه.
فضلا عن ذلك فإن الفاعلين بمختلف المواقع، مطالبين باستيعاب معطى أن النهوض بالإعلام، يتطلب عصرنة المقاولات، وترسيخ الاحتراف، ورفع التحديات التي تصنعها غزارة العرض وتنوعه، حتى تقوم مقاولات إعلامية قوية، قادرة على إشباع المتلقي بمعطيات، تمكنه من التفاعل مع بيئته، وتكون بعيدة عن الوصاية والتوجيه الواحد، وهذا ما جعله يدعوا مرارا إلى التأسيس لإعلام متحرر وديناميكي معانقا للواقع، الذي من شأنه ” أن يجنب البلاد الكوارث التي نراها صباح مساء هنا وهناك، فأن يتحاور المغاربة في الندوات التلفزيونية، خيرا من أن يتحاوروا بالسكاكين والكلاشينكوف..” كما كان يردد.
اعلام وسياسة
بيد أن الاعلام العمومي المغربي خاصة السمعي البصري الذي يجب أن يكون في نسق واحد مع التطور الحاصل في البلاد “سار دائما وأبدا، على ايقاع تقلبات الوضع السياسي، محكوما بعدم الاحتكام الى المنطق والقوانين والمفاهيم التي تسير هذا المرفق” العمومي” ، وهي الخلاصة التي استنتجها بنفسه، بعد تجربته القصيرة على رأس وزارة الاتصال ودبجها لدى تقديمه لكتاب” رحلتي مع الميكرفون” للإعلامي المخضرم محمد بن ددوش ( 1929- 2023 ).
وفي ظل الوضعية الراهنة للصحافة والاعلام، فإن الحاجة قائمة لاستعادة فكر العربي المساري، والقيم النبيلة التي ناضل من أجلها، والتي تسائل مكونات المشهد الصحفي والإعلامي؛ في الألفية الثالثة، التي تكاد تجمع مختلف التحليلات على تراجع منسوب الصحافة والاعلام وتدنى الممارسة المهنية التي لم تستفد من إيجابيات التطور التكنولوجي .
العربي المساري كان رجلا إستثنائيا، ووطنيا كبيرا، ورجل دولة، ظل قيد حياته مهووسا بحب الوطن، دافع عن مغرب الديمقراطية والحرية والكرامة ، يعتبر أن حرية الرأي والتعبير والصحافة هي أم الحريات، وقدم إسهامات وازنة على مستوى قوانين الصحافة والنشر، وتشريعات الاتصال السمعي البصري بالبلاد، كما قال الإعلامي والباحث عبد الجبار الراشيدي، القيادي في حزب الاستقلال، في معرض تدخله السنة الماضية، بحفل توقيع اتفاقية تسليم خزانة كتب العربي المساري للمكتبة الوطنية.
المهنية والمصداقية
لقد ظل الراحل صحافيا مهنيا الى آخر رمق في حياته، ويعد واحدا من جيل الصحافيين المغاربة – وهم قلة- الذين حرصوا واجتهدوا خلال مسارهم المهني الزاخر على الملاءمة بين هدفين يسعى إليهما أي كاتب صحافي جدير بالصفة: تطوير أدوات الكتابة بالإيقاض المستمر لحاسة الملاحظة والتحري، والرفع من درجة إدراك مفارقات الواقع المحلي والدولي مع الانتباه إلى ” مطبات” السياسة وأحابيلها، وذلك بتغليف ” المنتوج” المعد للقارئ بأثواب المهنية والمصداقية والسلاسة والجاذبية في التعبير، كما جاء في شهادة الكاتب الصحفي المخضرم محمد بوخزار التي تضمنها مع شهادات أخرى حول محمد العربي المساري، بعنوان “.. ذاكرة وطن وصوت جيل ” الصادر عن مؤسسة منتدى أصيلة سنة 2012 .
الى جانب ذلك انشغل العربي المساري بعدد من القضايا الدولية في مقدمتها العلاقات المغربية الاسبانية، التي خصها بعدد من الأبحاث والمقالات، توجها بمؤلف ” اسبانيا الأخرى”، يسائل فيه بالخصوص النخب في البلدين، ويدعو الى تجاوز عقد التاريخ وعداوته، والتوجه نحو بناء مستقبل مشترك، والقطع مع بعض الأفكار المسبقة والمواقف الاسبانية الماضوية التي تعتبر المغرب عمقا استراتيجيا لاسبانيا،اعتقادا بأن من يسيطر على الضفة الجنوبية للمتوسط، يهيمن أيضا على ضفته الشمالية، وهو ما جعله يبحث دوما عن إسبانيا الأخرى.
دول الجوار
غير أن إسبانيا مطالبة بأن تعيد اكتشاف تاريخها المشترك مع المغرب، خصوصا إسبانيا المستعدة لبناء علاقة جديدة مع المغرب خلال القرن الواحد والعشرين، كما كتب وزير الخارجية الإسباني الاسبق ميغيل انخيل موراتينس في معرض تقديمه للنسخة الإسبانية من كتاب ” اسبانيا الأخرى”.
أما بالنسبة لصورة المغرب لدى الجارة الشرقية للمملكة، فقد أبدع العربي المساري في رسم صورتها من خلال كتابيه ” المغرب الافتراضي في الصحافة الجزائرية”، و” قصف الواد الناشف” الصادر سنة 2000، رصد فيهما الأكاذيب والأباطيل التي تروجها الآلة الإعلامية الجزائرية عن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المغربي، وهي نفس الماكينة التي لا زالت تشتغل إلى اليوم بالرغم من الصدأ الذي أصابها، كما يرى الراشيدى في مداخلته السابقة.
العربي المساري، ازداد بتطوان، وبدأ مساره الصحافي بالإذاعة الوطنية سنة 1958، قبل أن يلتحق سنة 1964 بجريدة (العلم)، كمحرر فرئيس تحرير ثم مديرا لها سنة 1982. وعلى المستوى السياسي التحق سنة 1965 بالمجلس الوطني لحزب الاستقلال خلال مؤتمره السابع، وانتخب خلال ذات السنة عضوا في اللجنة المركزية للحزب، قبل أن يتم انتخابه سنة 1974 عضوا في لجنته التنفيذية. وعين المساري، الذي كان كاتبا عاما لاتحاد كتاب المغرب لثلاث ولايات، سفيرا للمغرب بالبرازيل من 1985 إلى 1991. كما شغل حقيبة وزارة الاتصال من مارس 1998 إلى شتنبر 2000 .
للمساري أزيد من 20 مؤلفا ، من بينها “معركتنا ضد الصهيونية والإمبريالية” سنة 1967، و”المغرب/إسبانيا في آخر مواجهة” (1974)، و”الأرض في نضالنا السياسي بعد الاستقلال” (1980)، و”صباح الخير أيتها الديمقراطية” (1985)، و”المغرب بأصوات متعددة” (1996)، و”المغرب ومحيطه” (1998)، و”محمد الخامس.. من سلطان إلى ملك” (2009)، و”ابن عبد الكريم الخطابي من القبيلة إلى الوطن” (2012).