يقول المفكر الأميركي جون ميرشايمر، وهو أحد رواد المدرسة الواقعية البنيوية في العلاقات الدولية، التي تتفرع منها الواقعية الهجومية، “إن الصراع الدولي هو سمة أساسية في العلاقات بين الدول حيث تسعى كل دولة إلى فرض هيمنتها لتحقيق أمنها واستراتيجياتها”، ويضيف مواطنه روبن دانفورث باتنام ” أن الصراع ينشأ عندما تتضارب المصالح الوطنية للدول وتتصادم لتحقيق أهداف مختلفة ويعبّر عن منافسة على الموارد والهيمنة”.
ويضاف إلى هذا، أن الصراع يمكن أن ينتج من تحوّل في مستوى القوة، التي قَسَّمَهَا المفكر الأميركي ألفريد أورغانسكي في كتابه الشهير “السياسة العالمية” إلى أربعة أنساق متتالية، دول قوية وقانعة ودول قوية وغير قانعة ودول ضعيفة غير قانعة ودولة ضعيفة قانعة، ويقصد بالدول القوية غير الراضية تلك التي تعبّر عن عدم رضاها عن توزيع خارطة القوة في العالم، مثل الصين وروسيا اللتين تقعان في النسق الثاني وتتطلعان للوصول إلى النسق الأول.
ويعدّ الصراع الدولي إحدى أدوات الدول في سياستها الخارجية بُغْيَةً تحقيق مصالحها العليا في بيئتها الدولية، وتعتمد في إدارته على وسائل تصادمية وأخرى غير تصادمية أو كلتيهما معاً، كما هي الحال في الحرب الدائرة حالياً بين روسيا وأوكرانيا من جهة والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، ومن ضمن هذه الأدوات الصراعية عملية استنزاف العدو.
ينصرف مفهوم الاستنزاف إلى قيام دولة أو أكثر باتخاذ مجموعة من التدابير والإجراءات المختلفة باستعمال كل الوسائل المتاحة لدفع العدو إلى إضعاف قدراته من خلال استنزاف شامل لقواه البشرية والمالية والعسكرية، للحد من قدرته على مواصلة الصراع، بالشكل الذي يكفل تحقيق الانتصار عليه في المدى الطويل، وأثبت فعاليته في العديد من الصراعات الدولية عبر العالم.
ومع تطور الصراعات الدولية وتنوّع أساليب إدارتها، تبرز نظريات جديدة مضادة لها تفتقت عن ذهنية الفكر الاستراتيجي للقيادات السياسية -من خلال قراءتها الجيدة لطريقة تفكير الخصم وردود أفعاله المحتملة – التي سرعان ما تتحوّل مع مرور الوقت الى استراتيجيات وأدوات تتبناها الدول في صراعاتها مع خصومها، كيف ذلك؟
شكلت الحرب الروسية-الأوكرانية الاستثناء بالنسبة إلى مفهوم الاستنزاف، بعد أن بنى الغرب تصوّره الكلاسيكي على أن استنزاف موسكو بجملة من التدابير من بينها الدعم غير المحدود لكييف عسكرياً واستخبارياً، مع تطبيق الكثير من العقوبات على الاقتصاد الروسي لخنقه ودفعه إلى الانهيار، وبالتالي تفكك الدولة الروسية والحيلولة دون مواصلة صعودها الاستراتيجي الذي بدأ منذ تولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سُدَّةَ الحكم في الكرملين.
القيادة الروسية كانت تدرك خطورة الإجراءات المتبعة من الغرب وحذرته من ارتدادها عليه، بيد أن الأخير ونتيجة حساباته الخاطئة وقع في مصيدة الاستنزاف التي نصبها لروسيا، وهو ما يمكن تسميته بـ “الاستنزاف العكسي”، الذي يُقْصَدُ به عكس التدابير المتخذة من العدو وجعلها ترتد عليه ونكون ربما أمام نظرية “اللعبة غير الصفرية المتساوية”.
وقد تجلى هذا “الاستنزاف العكسي” في الخسائر المالية الكبيرة التي تكبّدها الغرب منذ اشتعال الحرب في ال 170 مليار دولار التي قدمها كمساعدات مختلفة لأوكرانيا مموّلة من دافعي الضرائب الغربيين الذين أصبحوا يعبّرون عن تذمّرهم من سياسات بلدانهم، من جراء تدني مستوى معيشتهم بِفِعْلِ ارتفاع التضخم، وأسعار الطاقة عشرات الأضعاف في الغرب، ما دفع بعض البنوك الغربية إلى رفع نسبة الفائدة لكبح جماح التضخم، من دون نسيان الخسائر التي تكبدتها الشركات الغربية العاملة في روسيا والتي تقدر بملايين الدولارات.
وفي المقابل، عمل الروس منذ اندلاع العملية العسكرية على إبقاء اقتصاد بلادهم محصناً من أي تداعيات سلبية محتملة، بالالتفاف على العقوبات الغربية والتخفيف من وطأتها عبر الاعتماد على شبكة واسعة من الحلفاء الدوليين والإقليميين، وهو ما جعل الاقتصاد الروسي يقفز إلى الصف الرابع في سلم ترتيب الاقتصاد العالمي بعد الصين والولايات المتحدة والهند، حسب آخر بيانات أصدرها قبل أشهر صندوق النقد الدولي، إذ حقق الاقتصاد الروسي نمواً ملحوظاً وصل إلى 3.8% خلال العام الحالي متفوقاً على اليابان %3.7 وألمانيا 3.4%.
كما أن استراتيجية الاستنزاف العسكرية التي تتبعها موسكو القائمة على ضرب البنى التحتية العسكرية الأوكرانية، من مخازن أسلحة مُوَرَّدَةِ من الغرب ومطارات حربية، وكذلك مواقع تمركز الجيش الأوكراني في القطعات العسكرية، أبانت عن فاعليتها وَحَدَّتْ من قدرة الأوكرانيين على أخذ زمام المبادرة الميدانية.
إجمالاً، يمكن القول إن الحرب الروسية-الأوكرانية أرست مفهوماً جديداً في الصراع، وهو مفهوم “الاستنزاف العكسي”، وهذا يتطلب من القادة السياسيين قدراً من المهنية العالية في إدارة الصراعات والفهم الدقيق لطريقة تفكير الخصم ورصد ردود أفعاله المحتملة.
في الختام، إن مفهوم “الاستنزاف العكسي” في إدارة الصراع، يمكن أن يتحوّل مستقبلاً إلى موضوع أكاديمي هام في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، يُدَرَّسُ في العديد من الجامعات، خصوصاً في العالمين الإسلامي والعربي حتى يتمكّن الأساتذة والدارسون من استيعابها واستخلاص دروسها، ولا سيما في ظل محطات مصيرية تمس حاضرهما ومستقبلهما.