يحلل الصحافي د. جمال المحافظ مسار قانون الاضراب ومحطاته التي يجهل أجيالا كثيرة من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والبرلمانيين السياق العام الذي طرحت فيه لأول مرة هذه القضية باعتبارها حقا من بين حقوق المضربين في القطاع العام والخاص…وإليكم نص مقال الزميل المحافظ.
يبدو أن أجيالا كثيرة من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والبرلمانيين، ونحن نواكب مجريات النقاش الدائر حاليا داخل وخارج قبة المرسسة التشريعية حول مشروع قانون الإضراب تجهل السياق العام الذي طرحت فيه لأول مرة هذه القضية باعتبارها حقا من بين حقوق المضربين في القطاع العام والخاص. عوامل كثيرة أطرت هذه السياق يتداخل فيها التدافع السياسي مع الاجتماعي والنقابي والتشريعي، في مرحلة بناء المغرب الجديد، بعد الحصول على الاستقلال.
وبغض النظر عن حجم الجدل الدائر ما بين الحكومة وأغلبيتها والهيئات النقابية، خاصة بعد إحالته على البرلمان وذلك بعد 60 من الانتظار، فإنه من المفيد استحضار السياق التاريخي الذي يرتبط ب 1960 وهي السنة التي تقدم فيها محمد الحيحي ( 1928 – 1998 ) أمام الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى بعد قرار وزير التربية والوطنية والشبيبة والرياضة، أنذاك توقيفه عن العمل حينما كان موظفا بقطاع الشبيبة والرياضة.
فلجوئه كان بغرض الى الدفاع فيه عن الحق في ممارسة الإضراب، انطلاقا من قناعته الراسخة وايمانه بدولة الحق قبل إقرار أول دستور سنة 1962، مع العلم أنه كان الموظف الوحيد الذى لم يسمح له باستئناف عمله من بين المشاركين في هذا الإضراب الذى عرفته أسلاك الوظيفة العمومية يوم 25 مارس 1960 .f
في غياب الدستور
ورغم أن الحيحي بين في طلب الطعن بأن ما تعرض له يشكل شططا صريحا في استعمال السلطة واجراء عقابي وخرقا للظهير الصادر بشأن النظام الأساسي للوظيفة العمومية وكذلك للضمانات التأديبية في الظهير المتعلق بالنقابات المهنية، واستند على دوافع لا علاقة لها بالحفاظ على مصالح الخدمة العمومية، فإن الغرفة الإدارية لدى المجلس الأعلى في حكمها الشهير إلى إعطاء الحق للإدارة في قرارها طرد وإلغاء عقد عمل والتشطيب عن اسم محمد الحيحي من لائحة مديرية الشبيبة والرياضة بدعوى “أن الموظفين عند إضرابهم عن العمل جماعيًا، لا يرتكبون فقط خطأ شخصيًا شنيعًا، بل يضعون أنفسهم خارج نطاق تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بالوظيفة العمومية “.
وفي مناقشتهما للطعن الذي تقدم به محمد الحيحي، يتوقف كلا من الأساتذة الجامعيين، عبد القادر باينة ومحمد الساسي و عبد الرحمن حداد، عند سياقات ودلالات هذا الحكم وجرأة رافعه، وذلك في معرض شهاداتهم تضمنها كتاب “محمد الحيحي ..ذاكرة حياة” من تأليف مشترك بين كاتب هذه السطور والفاعل المدني الحقوقي عبد الرزاق الحنوشي الصادر عن دار النشر “فاصلة”.
عبرة للآخرين
وفي هذا الصدد اعتبر باينة أستاذ القانون الإداري، أن الطرد الذي تعرض له محمد الحيحي من الوظيفة العمومية، ” كان في حقيقة الأمر، نتيجة نضاله ضد القمع والظلم، ولمواقفه السياسية الجريئة”، موضحا أن الدعوى التي رفعها آنذاك ضد الدولة ، ” كانت حدثا تاريخيا والأول في مجال الاضراب بالمغرب”. وذكر بأن قرار الطرد الذي طال الحيحي وصف آنذاك ب” التراجع الخطير الى الوراء، وتصفية لحسابات سياسية، بهدف جعل محمد الحيحي عبرة للآخرين الذين قد يحاولون بدورهم شن الاضراب مستقبلا” في أسلاك الإدارة العمومية.
ونتيجة تطور الحركة النقابية، أضحت حاليا الحق الاضراب متاحا على الرغم من ربطه وتقييده بعدد من الإجراءات، ورغم ذلك لم يصدر القانون التنظيمي الخاص بممارسته لحد الآن، وذلك منذ الطعن الذي تقدم به الحيحي سنة 1960. وهكذا لا يمكن اعتبار الاضراب غير شرعي ومحرم في الوظيفة العمومية، وبالمقابل فكل قرار يعنى غير ذلك، فهو غير شرعي ومخالف للدستور، مع العلم أن ظهير 24 فبراير 1958 في حالة محمد الحيحي لم يمنع ممارسة حق الاضراب، ولكن اعتبره محرما على مجموعة من فئات الموظفين التي تمنع أنظمتهم الأساسية صراحة حق الاضراب الذي هو حق مشروع لكافة الموظفين، حسب الأستاذ باينة .
مواطن شجاع
أما الأستاذ الباحث محمد الساسي، فوصف حكم الغرفة الإدارية في قضية محمد الحيحي ب”المحافظ”، موضحا استند في غياب الدستور، إلى الفصل الخامس من مرسوم 2 فبراير 1958 الذي ينص –في ما يتعلق بالموظفين العموميين- على أن “كل توقف عن العمل بصفة مدبرة وكل عمل جماعي أدى إلى عدم الانقياد بصفة بينة، يمكن المعاقبة عليه خارج الضمانات التأديبية”. وأعرب عن قناعته كما كانت قناعتة جيله بأن محمد الحيحي : مواطن شجاع وحريص على المطالبة بحقوقه والدفاع عن مشروعية الإضراب في الوظيفة العمومية:.
فمحمد الحيحي ذهب إلى المحكمة لا ليستعيد حقا ولا ليسترجع منصبا وظيفيا وأجرا شهريا، بل ذهب ليقدم إجاباته عن كل تلك الأسئلة وليعلن عن انتصاره لمشروع مجتمعي بديل يقوم على الكرامة وعلى الحق وعلى المواطنة. معركة الرجل كانت أكبر من أن يقول إن للبيت ربا يحميه، وينزوي في الغياب، كما سجل الأستاذ الباحث عبد الرحمن حداد.
فبلجوئه إلى المحكمة، كان محمد الحيحي يحمل حلم بناء الدولة الحديثة، بما هي إطار مؤسساتي يحكم علائقه القانون لا الحسابات الشخصية ولا التموقعات السياسية. كان الرجل مسكونا بالبناء: بناء الوطن، بناء الطريق ( الوحدة )، بناء الفعل الجمعوي والحقوقي المرتكن إلى المبادئ، وبناء العمل السياسي الموسوم بالأخلاق، وذهاب الحيحي إلى المحكمة في زمنه ذاك، كان ليضع حجرا من أحجار أساس كل هذه البناءات، ولأن اللجوء إلى القضاء سلوك حضاري يعلم أهمية حضور قضاء مستقل، عادل وجريء في قيام دولة حديثة، يستخلص الأستاذ حداد القيادي السابق بالجمعية المغربية لتربية الشبيبة ( AMEJ ).
ترافع جماعي
وفي رؤية استشرافية، تساءل الأستاذ حداد، فمحمد الحيحي في الهناك، كم نحتاج لروح مشروعه لتذكرنا أنه بعد أكثر من ستين سنة على القرار القضائي الشهير، ورغم التنصيص الدستوري المتكرر على الحق في الإضراب، لم يصدر قانون الإضراب بعد. نحتاج روح محمد الحيحي لتذكرنا أن مسيرة البناء تتطلب نفسا طويلا وترافعا جماعيا وذاكرة لا تسمح بالنسيان أو التعب، كما خلص الى القول الأستاذ عبد الرحمن حداد.
ويعد حق الإضراب أحد الحقوق المشروعة للدفاع عن المصالح المادية والمعنوية للأجراء، وباعتباره منصوص عليه في بعض المواثيق الدولية، فإنه أهم تجليات ممارسة الحق النقابي، الذي يشكل أحد المبادئ الأساسية لحقوق الأجراء. كما أن التنصيص عليه في الدستور يجعل منه أحد الحقوق الدستورية المخولة للأفراد والجماعات.
غير أن فقرته الثانية أناطت بنص تنظيمي بيان الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق الدستوري، ولهذه الغاية. وهو ما يرمي إليه المشروع المحال على البرلمان – حسب واضعيه – إلى ” سد هذا الفراغ التشريعي وتحقيق أكبر قدر من التوازن في علاقة الشغل من خلال تحديد شروط وشكليات ممارسة هذا الحق وحمايته”.
وفي الوقت الذى تنتقد المعارضة المشروع الحكومي حول القانون التنظيمي للإضراب، خلال تقديمه أمام اللجنة المختضة في مجلس النواب بدعوى ” عدم إجراء مشاورات موسعة حول مضامينه، تطالب الحكومة بالتوافق علي على هذا المشروع مع النقابات والفرقاء الاجتماعيين قبل بدء مناقشته في البرلمان.