إن سطحية العصر الحديث تتجلى في تقديسنا للرموز الترفيهية على حساب الفكر والعمق . (جون بودريار)
تعد هذه المقولة نقطة البداية المثالية لهذا المقال ليس لانها تومىء الى الترفيه الذي اصبح مهيمنا على شتى طقوس الحياة اليومية، و لكن لانه في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها العالم الحديث، أصبح من الاهمية بمكان التوقف والتأمل في القيم التي تسود مجتمعنا الحالي.
ففي عصر تسيطر فيه وسائل الإعلام على توجهات الجماهير وتحدد صباح مساء مجموع أولوياتهم، يتضح أن التركيز ينصب بشكل كبير على الترفيه والمظاهر السطحية، مع تجاهل تام لكل ما يمت بصلة للفكر النقدي والعمق الثقافي.
ان هذا التحول الثقافي الصارخ ليس وليد اليوم و لكنه تحصيل حاصل: انه من افرزات العقود الاربعة الاخيرة، خاصة بعد انهيار جدار برلين و انحسار المد الشيوعي في العالم على حساب الراسمالية الليبرالية المتوحشة التي تبيع و تتاجر في كل شيء بدءا بالانسان و انتهاء بالقيم.
ان المرور الى مجتمع تسليع القيم لم يتم بمحض الصدفة، لانه نتاج لعدة عوامل متداخلة تشمل الهيمنة الإعلامية والنمو السريع للتكنولوجيا الرقمية التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تتسابق فيها الثقافات على جذب انتباه الأفراد. فوسائل الإعلام اليوم لا تكتفي بنقل الأخبار أو تقديم المعلومات، بل تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه اهتمامات الجماهير نحو مواضيع معينة، غالبًا ما تكون سطحية وغير ذات جدوى.
في هذا السياق، تبرز كرة القدم كواحدة من أبرز الظواهر المعولمة التي تعكس هذا التحول الثقافي. فكرة القدم لم تعد مجرد رياضة، بل تحولت إلى صناعة ضخمة تدر مليارات الدولارات وتؤثر على حياة الملايين من الناس. كما اصبح النجوم الرياضيون رموزًا ثقافية تتجاوز شهرتهم حدود الملاعب لتشمل مختلف جوانب الحياة اليومية، من الموضة مرورا بالسينما و التمثيل وصولا إلى الإعلانات التجارية.
ان هذا الارتفاع الهائل في مكانة نجوم كرة القدم و قيمتهم المادية و الرمزية يعكس بشكل واضح كيف أن المجتمع الحديث يميل إلى تقدير الأمور السطحية والترويج لها على حساب القيم الفكرية العميقة. ومع تزايد الفجوة بين النخبة المثقفة والجماهير، اصبح لزاما علينا طرح الأسئلة الحقيقية حول مدى تأثير هذا التوجه على الثقافة العامة ومدى إمكانية استعادة التوازن بين الترفيه والفكر.
نحن نعتقد من موقعنا كاستاذ باحث لاكثر من عقد و نصف في مجال الاعلام و التواصل ان العالم برمته يولي اليوم اهتمامًا متزايدًا ومبالغًا فيه بكرة القدم، حيث يتم التعامل مع نجوم الكرة وكأنهم آلهة.
ان هذه الظاهرة اخذة في النمو و التمدد بشكل وحشي صارخ، و هي ليست مجرد تقدير لمهاراتهم الرياضية، بل تتجاوز ذلك إلى مستوى من العبادة الجماهيرية التي تفتقر إلى التوازن الاجتماعي والثقافي.
نحن لا نبالغ في الوصف.. لكن دعونا نلاحظ ان مباريات كرة القدم قد اصبحت بمثابة تجمعات ضخمة تشبه الطقوس الدينية، حيث يندمج المشجعون في تجربة جماعية تملؤها المشاعر الحماسية. و خير مثال على هذا الملاعب الممتلئة وصيحات الجماهير الغاضبة و المنتشية في الملاعب وصور ايقونات كرة القدم على أغلفة المجلات والشاشات الكبيرة التي تعكس هذا الهوس الجماهيري العابر للقارات و لزمكان الانسان العابد لكرة القدم.
و يعتبر اليوم العديد من لاعبي الكرة بالعالم رموزًا وطنية وأبطالًا يتابعهم الملايين ويقتدون بهم، مما يضعهم في مكانة عالية تصل الى القداسة.
على سبيل المثال، ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو وكيليان مبابي هم من أبرز نجوم كرة القدم الذين يحظون بمتابعة هائلة في جميع أنحاء العالم.
اليوم مثلا، يُنظر إلى ميسي على أنه أحد أعظم اللاعبين في تاريخ اللعبة، حيث يتابعه ملايين المشجعين بشغف. اما بالنسبة لرونالدو، صاحب المعايير الفائقة في الأداء الرياضي والجسدي، فان هذا اللاعب النجم بات يجسد القوة والعزيمة ويُعَد نموذجًا يحتذى به. لدينا مثال ثالث و هو مبابي، الشاب الفرنسي، الذب يمثل الجيل الجديد من اللاعبين الذين يتمتعون بمهارات استثنائية وآفاق واسعة. علاوة على هذا فان الأندية التي يلعب فيها هؤلاء النجوم الثلاثة تصرف مليارات الدولارات على رواتبهم وانتقالاتهم، وتستثمر مبالغ ضخمة في التسويق والترويج لهم، مما يعزز من صورتهم كبضائع ثمينة في سوق الرياضة العالمي.
و نلاحظ ايضا ان هذا التقدير المفرط لا يتوقف عند حدود الأداء الرياضي، بل يمتد ليشمل حياتهم الشخصية وتحركاتهم اليومية، ما يحولهم إلى موضوعات دائمة للصحافة ووسائل الإعلام.
ان هذا التقدير المبالغ فيه لنجوم كرة القدم اصبح الملمح البارز لعصرنا المغرق في الابتذال و السطحية، و من المؤكد انه يمكن الاصطلاح عليه بتوصيف واحد وحيد : قمة التفاهة.
و في هذا السياق، في كتاب “عصر التفاهة” للكاتب الكندي آلان دونو، يتم استعراض كيف أن المجتمع الحديث يميل إلى تقدير الأمور السطحية وتجاهل القيم الفكرية العميقة، حيث يقول دونو: “إن التفاهة أصبحت هي القاعدة، والمجتمع أصبح يقدس النجومية بغض النظر عن المحتوى.”
ان كرة القدم، بلا شك، أصبحت تجسد هذا العصر التافه بشكل مثالي، حيث يتم تحويل اللاعبين إلى رموز و ايقونات ثقافية يتابعها الملايين بشكل أعمى جنوني و دون ادنى قسط من التفكير.
ان هذا الاتجاه نحو التفاهة يعكس، حسب دونو، تدهور الذوق الثقافي والفكري للمجتمع، حيث تصبح الأمور البسيطة والمسلية هي محور الاهتمام، فيما يتم تهميش الأفكار العميقة والقضايا الجوهرية.
و في هذا الاتجاه يرى دونو أن هذه التفاهة ليست عرضًا جانبيًا بل هي جوهر الثقافة الحديثة، حيث يتم إعادة تشكيل القيم الاجتماعية لتصبح أكثر سطحية واستجابة للإثارة اللحظية بدلاً من التفكير العميق والاستدامة الفكرية.
ليس دونو المفكر الوحيد الذي ابرز في كتاباته الدور الخطير للاعلام في الاحتفاء بالابطال السطحيين ، فثمة نقاد اخرون ادلوا بدلوهم في هذا الموضوع، و لعل ابرزهم نعوم تشومسكي، الفيلسوف والناقد الثقافي الأمريكي، الذي يعبر عن هذا الموضوع بقوله: “إن وسائل الإعلام تروج للأبطال السطحيين في عالم الرياضة والترفيه لتشتيت انتباه الجماهير عن القضايا الحقيقية.”
و استنادا على مقولة تشومسكي يتبين بجلاء ان هذه الظاهرة تعكس كيف يتم استخدام كرة القدم كأداة للسيطرة الثقافية، حيث يُدفع الناس للانشغال بالأمور التافهة بدلًا من الانخراط في النقاشات الفكرية والسياسية و الاقتصادية التي تؤثر على حياتهم بشكل مباشر.
من زاوية فلسفية، يمكن النظر إلى الاتجاه العالمي نحو التسطيح و التنميط من خلال نقد مباشر نوجه سهامه الى مجتمع الترفيه والاستهلاك.
و في هذا الاطار دعونا نستحضر الفيلسوف الفرنسي جون بودريار الذي يتحدث عن “مجتمع الاستهلاك” و الذي من سماته البارزة ان تتحول السلع إلى رموز تعبر عن الهوية الاجتماعية.
و في هذا الصدد تمثل كرة القدم في راينا، أحد هذه السلع، باعتبار انها تصبح جزءًا من هوية الفرد والجماعة، مما يؤدي إلى تقديس اللاعبين الذين يجسدون هذه الهوية.
و انطلاقا مما سبق، يتبين ان كرة القدم علاوة على كونها سلعة في مجتمع الاستهلاك المتعاظم فانها اصبحت تلك القوة الناعمة التي تشكل بها القوى السياسية و الاقتصادية الهويات الفردية و الجماعية.
اما من ناحية علم الاجتماع فمن المهم ان نستشهد ببيير بورديو، السوسيولوجي الفرنسي الشهير، و الذي يوضح في كتاباته كيف أن الرياضة، بما في ذلك كرة القدم، يمكن أن تكون وسيلة لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، حيث يتم استخدام الشعبية الكبيرة لكرة القدم لتعزيز التفوق الثقافي لبعض الفئات على حساب الأخرى.
في الختام، يمكن القول إن عصر التفاهة يبرز بوضوح في طريقة تعامل المجتمع مع كرة القدم ونجومها. فانت هنا و هناك بت تعاين الناس يصيحون كالمجانين في المقاهي و هم يشاهدون المباريات، بينما يتجاهلون عادة القراءة و مجتمع المفكرين والكتاب والفلاسفة الذين من المفروض ان يمثلوا نخبة المجتمع و أن يكونوا بلا منازع في دائرة الأضواء.
ان الاقبال المفرط على استهلاك كرة القدم ليس عيبا في حد ذاته، و لا يجب ان نتخيل باي حال من الاحوال انه انعكاس محايد للولع بالرياضة. انه مع الاسف مؤشر خطير على القيم السطحية التي تحكم المجتمع المعاصر الذي اضحى يثمن الترفيه والاستهلاك على حساب التفكير و الانشغال بما هو مفيد.
إن مشاهد الهوس الجماعي في المقاهي والملاعب، حيث تشتعل الحماسة والتشجيع الجنوني، دليل حي على بؤس المجتمع.
انها تبرز بوضوح كيف أن الإنسان المعاصر بات يميل إلى الهروب من الواقع المعقد إلى عوالم ترفيهية لا قيمة لها.. و لعل هذا الهروب يعكس نقصًا في الثقافة النقدية والوعي الاجتماعي.
إنه بالفعل عصر التفاهة المصطبغة بها ثقافتنا المعاصرة ، و هو لعمري عصر جديد و غريب يفضل فيه الناس تزجية اوقاتهم في الصراخ الهستيري و الهتاف في الملاعب على التعلم و القراءة و التامل و اعمال الفكر فيما يصلحهم و يفيدهم