محمد السادس ملك الثورات الصامتة والاشراقات الجاذبة لمملكة متجددة
بقلم/عبدالسلام العزوزي
في أول خطاب للملك محمد السادس؛ وهو يعتلي عرش المملكة المغربية لأول مرة في الجمعة 30 يوليوز 1999، أعلن فيه عن خطة استراتيجية واقعية محكمة ومدروسة الابعاد والاهداف، ومستحضرة أيضا المثبطات والصعاب؛ خطة تستشرف مستقبل المملكة، وتضع رؤية ملكية على سكة واضحة المعالم سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية للمغرب أو بعلاقاته الخارجية.
كانت محطة تاريخية واستثنائية بكل ما للكلمة من معنى، دشنها الملك محمد السادس وهو يعتلي عرش المملكة بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني الذي بكاه المغاربة بألم شديد وحرقة كبيرة؛ وتألم لفراقه محبيه والمعجبين بحكمته ودهائه ونصائحه في تدبير شدائد الأزمات الداخلية والخارجية والدولية.
دشن الملك الشاب هذه المحطة التاريخية بحكمة الخبير والعارف لمجريات الاحداث والتوقعات مستلهما من والده ومن تاريخ وحضارة المملكة استراتيجيتها وتفاعلها مع أخطر الازمات والوقائع. كانت بالفعل محطة مفصلية في مسار الدولة المغربية التي ناهزت أربعة عشرة قرنا منذ تأسيسها على يد المولى ادريس الأول عام 789 م ؛ والتي تعتبر الدولة الإسلامية الثانية المستقلة عن الدولة العباسية بعد الدولة الأموية في الأندلس التي تأسست في العام756 م؛ وهي تشع وترسم بكل الألوان والخصوصية والاستثنائية المغربية للعالم أجمع أسلوب انتقال السلطة السًّلس بطقوسه التاريخية والحضارية المغربية المتفردة المرتكزة على خصوصية البيعة والولاء لسلاطين وملوك الدولة المغربية على مر العصور والأزمنة؛ عشية ولوج العالم في الالفية الثالثة وبالتحديد قبل خمسة أشهر فقط من نهاية القرن العشرين.
إذ قال الملك محمد السادس في أول خطاب له “لقد قيض الله لنا أن نتربع على عرش أجدادنا الميامين وفق إرادة والدنا الذي أسند إلينا ولاية عهده، وبناء على مقتضيات الدستور، وطبقا للبيعة التي التزم بها ممثلو الأمة. فتسلمنا المشعل من يد والدنا، قدس الله روحه لممارسة مسؤولية قيادة البلاد. ونحن بحول الله مصممون العزم على مواصلة مسيرة التطور والنماء لصالحك شعبي العزيز. ولفائدة جميع فئات الشعب. ولاسيما الفئات المحرومة التي يستأثر مصيرها باهتمامنا، والتي نوليها عطفنا وحنونا.”
هذا هو المنطلق الذي راهن عليه المغرب في عهد الملك محمد السادس الذي اعتبر أكبر تحد هو الجانب الاجتماعي الذي عُدًّ صلب اهتمامات هذه الاستراتيجية التي ارتكزت على ما راكمه المغرب في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي وضع أسس سياسة الدولة المغربية ومعالمها الكبرى. يقول الملك محمد السادس في نفس خطابه الأول؛”إننا نحمد الله على أن أسس سياستنا الداخلية بارزة المعالم؛ واضحة السمات؛ وإن المطلوب هو ترسيخها ودعمها. لذا فنحن متشبثون أعظم ما يكون التشبث بنظام الملكية الدستورية؛ والتعددية الحزبية؛ والليبرالية الاقتصادية؛ وسياسة الجهوية واللامركزية؛ وإقامة دولة الحق والقانون؛ وصيانة حقوق الإنسان والحريات الفردية والجماعية؛ وصون الأمن؛ وترسيخ الاستقرار للجميع”.
هكذا بين الملك الشاب بشكل واضح خريطة طريق العمل لاستشراف المستقبل وتغيير ملامح المغرب الذي كان لا يزال ضمن بوثقة الدول التي تتطلع للنمو والتطور؛ خريطة ملهمة برامجها محفزة نحو مغرب متقدم مزدهر ومعاصر لاحق بركب الدول المتقدمة؛ حاملا طموحه وحلمه المرتكز على الاستراتيجية الواقعية في تدبير الشأن العام والتعامل مع الازمات، الحالم بروح التنافسية مع الدول الكبرى السباقة الى التقدم والتطور والازدهار.
وهو ما تشهده اليوم المملكة المغربية بعد ربع قرن من العمل الدؤوب والخطط والبرامج، والإصلاحات والاوراش الضخمة، والانفتاح الحكيم على مختلف القوى العظمى، وبناء استراتيجيات عملية معها، منطقها الواقع والثبات، وهدفها الربح المتوازي، والمتساوي، والاحترام، والتقدير المتبادل بين المملكة وهذه الدول المتقدمة سياسيا واقتصاديا.
فكان للمغرب ما خططه وبرمجه وما استهدفه من مرامي وأهداف يلمس الخصم قبل الصديق ما تشهده بلادنا من حركية اقتصادية وديناميكية بنيوية واصلاحات متجددة في شتى المجالات الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية والدينية والرياضية السياحية والدبلوماسية والثقافية والفنية، بعد ربع قرن من التخطيط والعمل بدون كلل ولا ملل.
كانت هذه البرامج والخطط تنزلها خطب الملك في المناسبات الوطنية، كأنها ثورات ممتدة لكنها “صامتة وقوية” مقتنعة بفعلها وفعاليتها على أرض الواقع وأثرها الإيجابي على البلاد والعباد. فكانت خطب الملك محمد السادس بقدر قصر مدتها الزمنية بقدر قوة فعالية تنفيذها، وأيضا بقدر جذبها للشعب المغربي الذي ينتظرها بشغف كبير متطلعا إلى ما ستحمله من قرارات وتعليمات.
ويمكن اعتبار خطاب العرش في الذكرى الفضية لاعتلاء جلالته العرش من أقصر الخطب الملكية بحيث لم يتعدى 11دقيقة إضافة الى دقيقتين للنشيد الوطني في مستهل الخطاب وفي ختامه. ركز فيه الملك محمد السادس على قضيتين فقط بالنظر إلى أهميتهما وضرورتهما لاستتباب الأمن والاستقرار في الظرف الراهن الذي تشهد فيه العديد من دول المنطقة العربية والقارة الافريقية حروبا وصراعات حول السلطة وحول اقتسام الماء أيضا.
أولا؛ إشكالية ندرة المياه في المغرب خلال السبع سنوات الأخيرة التي عرفت فيها البلاد شحا ملحوظا في غيث السماء، ما أثر سلبا على الفرشة المائية، وأحدث خصاصا في تزويد بعض مناطق المملكة بالماء الشروب.
وحتى لا ننتظر الأسوأ، ونفاجأ بالأخطر، جاء الخطاب الملكي مخصصا لوضع استراتيجية استباقية توفر الماء للساكنة كما لري الأراضي الفلاحية من خلال تحلية ماء البحر وربط الاحواض المائية ببعضها البعض تنفيذا لعدالة مجالية في المياه. وأيضا ترشيد استعمال الماء والابتكار في توفير المياه من خلال الاستثمار في الكفاءات المغربية المتخصصة في المحال والتشجيع على الاقبال على هذه الصناعة”المائية”.
ثانيا؛ الصراع الدائر في الشرق الأوسط، وأساسه الحرب على غزة من طرف إسرائيل المحتلة، حيث اعتبر الملك محمد السادس أن “اعتماد المفاوضات لإحياء عملية السلام، بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يتطلب قطع الطريق على المتطرفين، من أي جهة كانوا”. وهي رسالة ادانة واضحة للمتطرفين في منطقة الشرق الأوسط والذين يريدون اشعال المنطقة بأكملها حربا غير منتهية، قد تأتي على الأخضر واليابس، وتدخل العالم في صراع يفتقد فيه السلم والأمن الدولي.
رسالة سياسية واضحة في خطاب الملك محمد السادس لإسرائيل التي تطرفت كثيرا في حربها الظالم على قطاع غزة وباقي الأطراف المتدخلة في هذا الصراع الذي امتد لأكثر من سبعين سنة. خطاب اقترح حلولا واقعية براكماتية لانهاء الصراع بين إسرائيل وفلسطين من خلال حل الدولتين وضمان استقلال الدولة الفلسطينية في حدودها التاريخية وعاصمتها القدس الشريف.
هكذا، ينطق الملك محمد السادس في خطبه الملهمة التي شكلت على مدى ربع قرن من حكمه للمملكة ثورات صامتة لا تنطق الا بالحفاظ على الاستقرار الداخلي للمغرب والعناية بقضايا الوطن ومصير الأمة المغربية والتفاني في تطوير البلاد والرفع من منسوب عيش المواطن في ظل كرامة محصنة بدولة المؤسسات. وأيضا، لا تنطق خطب الملك محمد السادس في شق السياسة الخارجية الا بتعزيز وانفتاح المغرب على كل القوى الكبرى في العالم، والدفاع عن تنمية أفريقيا ونهضتها والحفاظ على الاستقرار والسلم والأمن الدولي.