نعيش اليوم في ظل نظام عالمي مهيمن متحكم يمتلك من الوسائل الاعلامية و الايديولوجية و التكنولوجية ما يمكنه من توجيه تفكير الجماهير وتحديد اهتماماتها. وقد أصبحت كرة القدم، دون شك، إحدى أهم الأدوات التي يستخدمها هذا النظام لتدجين الشعوب وتحويلها إلى قطعان مستأنسة، تتنقل بين شاشات التلفاز والملاعب كما تتحرك الأغنام في المراعي.
و لعل كرة القدم، أو كما يصفها البعض بـ”أفيون الشعوب”، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية لملايين الناس، فها هي ذي تشغل أفكارهم و تملا كل أوقاتهم، بل وتحدد أيضاً اهتماماتهم وتوجهاتهم.
و في عالم أصبح فيه “النجاح الحقيقي” محصوراً بين أقدام اللاعبين، يتم تهميش القضايا الحقيقية : التنمية، الحرية، الحق في الشغل، الكرامة، المساواة، تكافؤ الفرص و العدالة الاجتماعية؛ كما تُغمر العقول في التفاهة، حيث تتحول الكرة من مجرد رياضة عادية إلى دين عالمي يعتنقه الملايين.
هراء! تفاهة! مشاهدات مليونية عابرة للقارات لا جدوى منها و لا قيمة لها!
لست الوحيد الذي ينتقد سريان السم الكروي في جسم و روح العالم، فقبل عقود قليلة أشار الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو الى هذا السرطان المتشح بلباس الرياضة و المنافسة الشريفة، و بين لنا كيف استطاع النظام العالمي بنجاح مذهل أن يدجن الجماهير ويجعلها تعيش كرة القدم وتتنفسها على مدار الساعة، الى درجة انه استطاع ان يخلق نوعا من الاستلاب الجماعي، اصبحت داخله كرة القدم الوسيلة نامبر وان للهروب من الواقع، و لتفريغ الطاقة والهموم، بل و طريقة مفضلة لدى الكثيرين لتزجية الوقت دون اعمال الفكر في قضايا الحياة الحقيقية والمعقدة.
و من الثابت ان امبرتو إيكو يرى في هذا التدجين نجاحاً غير مسبوق للنظام العالمي، حيث يتحول الإنسان من كائن مفكر إلى كائن مستهلك، تتحدد اهتماماته وفق ما يريده الآخرون، ويتحول عقله الى معترك بل مزبلة تتعفن فيها الأهواء والغرائز.
ولكن دعونا نتساءل : هل كان هذا ليحدث دون إرادة الجماهير ؟
و هنا بالضبط يمكن ان نضع في مساحة الضوء فلسفات المفكرين الكبار مثل سبينوزا ونيتشه وكانط وهيجل وفرويد وكارل ماركس وألبير كامو، و الذين حاولوا من خلال أعمالهم الفلسفية تسليط الضوء على كيفية تفاعل الإنسان مع العالم من حوله، وكيفية فهمه لنفسه وللآخرين.
لتكن نقطة البداية سبينوزا، على سبيل المثال، الذي تحدث عن “القوة الداخلية” التي تحرك الإنسان وعن سعيه الدائم لتحقيق نوع من “السعادة العقلية”، و التي تنتج عن معرفة الحقيقة والتفكير العقلي. هذه الافكار عظيمة و طموحة، لكنها في عالم كرة القدم تتبخر و تتلاشى كالملح في الماء، اذ يبدو أن هذه القوة قد استُبدلت بقوة خارجية تفرضها الجماهير على نفسها، حيث تصبح الكرة هي الحقيقة الوحيدة التي تُلهي العقل وتبعده عن التفكير العميق في القضايا الوجودية.
اما بالنسبة لنيتشه، بفلسفته التي تدعو إلى التحرر من القيود التقليدية وإرادة القوة، فلو كان حيا يرزق بين ظهرانينا لكان قد راى في كرة القدم شكلاً من أشكال الانتصار الإرادي، حيث تتجسد إرادة القوة في اللاعبين الذين يتنافسون على التفوق والفوز. ولكن من جهة أخرى، ربما كان قد لاح له في عالم الكرة شغف جنوني للجماهير بقطعة مستديرة من الجلد تتقاذفها ارجل اللاعبين يمينا و شمالا و صعودا و هبوطا، بما يمثل لا محالة نوعاً من الانحدار والانغماس في العالم الحسي الذي يبعد الإنسان عن سعيه نحو “السوبرمان ” (Übermensch) الذي يتجاوز ذاته ويحقق إمكانياته القصوى.
أما كانط، الذي عرف عنه التركيز على أهمية الأخلاق والواجب في حياة الإنسان، فلعله لو كان شاهدا على عصرنا المصطبغ بجنون الكرة، لكان قد عارض بشدة الفكرة القائلة بأن كرة القدم يمكن أن تكون أكثر من مجرد لعبة. لانه بالنسبة له، العقل يجب أن يسود، والانغماس في شغف غير عقلاني قد يؤدي إلى تهميش القيم الأخلاقية. و هكذا فان كرة القدم، في هذا السياق، قد تكون بمثابة “العقبة” التي تعوق تقدم الإنسان نحو تحقيق الأهداف العقلانية والأخلاقية.
دعونا الان نبحر في مملكة هيجل، الذي تحدث مرارا و تكرارا عن “جدلية السيد والعبد”، و المقصود بها عملية التفاعل بين الطرفين في سبيل تحقيق الوعي الذاتي. و في سياق كرة القدم، يمكن اسقاط هذه الجدلية الهيجلية على العلاقة بين اللاعبين و الجماهير، حيث يتبادل الطرفان الأدوار بين السيد والعبد. فهنا تعبد الجماهير اللاعبين الذين يحققون لهم الإشباع اللحظي، بينما يحتاج اللاعبون إلى تقدير و تقديس الجماهير لإثبات وجودهم و نجاحهم في الملعب / المعترك.
اما فيما يتعلق بسيجموند فرويد، صاحب الرؤية النفسية العميقة، فلو اعطيت له الكلمة لقال لنا تقريبا ما يلي :
انا اعتقد ان شغف الجماهير بكرة القدم تعبير حي عن رغبات دفينة مكبوتة، انه نوع من الإسقاط (Projection) الذي من خلاله يعيش الأفراد خيباتهم وانتصاراتهم الشخصية عبر أداء اللاعبين على الملعب. و هنا بالذات تصبح كرة القدم مجالاً لاطلاق العنان للرغبات المكبوتة والطموحات غير المحققة، بما يمنح الأفراد شعوراً مصطنعا و مزيفا بتحقيق الذات.
ان كرة القدم يمكن ان تغذي بشطحاتها و جموح لاعبيها و جماهيرها خيال مجتمع واسع من الفلاسفة و المفكرين. و من ضمنهم بالطبع كارل ماركس، الذي تحدث عن “الاغتراب” (Alienation) في المجتمع الرأسمالي، و لو كنا قد اعطيناه الكلمة الان لكان قد راى في شغف الجماهير بكرة القدم نوعاً من “الاغتراب المزدوج”. فبينما يُستغل العمال في إنتاج السلع، تُستغل الجماهير في استهلاك لعبة صُممت لتُلهيهم عن قضاياهم الوجودية و في مقدمتها العيش و العمل الكريم و الحق في السكن و التعليم و التطبيب. و بالتالي تغدو كرة القدم أداة للإبقاء على النظام الاجتماعي القائم، حيث يتم تقليل الشعور بالاغتراب في عالم لا يرحم عن طريق توجيه الانتباه إلى كل ما هو غير مهم و غير جوهري.
اما بالنسبة لألبير كامو، الفيلسوف الوجودي، الذي اسهب في التنظير “للعبث” (Absurdism) ومعنى الحياة، فقد يرى في كرة القدم تعبيراً عن عبثية الحياة، حيث تتجسد في اللعبة كل التناقضات والصراعات التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية :
. لعبة لا معنى لها في جوهرها،
. لعبة تعطي معنىً مؤقتاً لمن يعيشونها،
. كرة القدم في نظر كامو قد تكون استراحة قصيرة من مواجهة العبث، لكنها في الوقت ذاته تأكيد على عبثية الوجود الإنساني.
في الختام، يمكن القول إن النظام العالمي نجح في استخدام كرة القدم كأداة للتحكم في العقول وتوجيه الاهتمامات، ولكن هذا النجاح لا يمكن أن يتحقق دون رغبة الجماهير نفسها في الهروب من واقعها إلى عالم أكثر بساطة وأقل تعقيداً. و في هذا السياق، تتحول كرة القدم إلى دين جديد، حيث يجد الناس فيها ملاذهم من متاعب الحياة، ويهربون من التفكير في قضاياهم الحقيقية إلى عالم مليء بالأوهام والخيالات. و بناء على هذا يصبح الهروب من الواقع هو الواقع الجديد، ويصبح الناس يتنفسون كرة القدم لأنها تعطيهم شعوراً زائفاً بالانتماء والمعنى.
و لكن، مهلا، ليس هذا كل شيء. فكما علمنا الفلاسفة الكبار.. إن هذا الانغماس في الأوهام لا يمكن أن يدوم. لانه سيأتي وقت يعود فيه الإنسان إلى ذاته، ليجد أن كرة القدم لم تكن سوى شاشة دخان حجبت عنه رؤية الحقيقة، وأن الطريق نحو السعادة والتحرر يكمن في التفكير العميق والفهم الحقيقي للذات و العالم.