“إن السعي الدائم وراء السعادة لا معنى له.. السعادة هي تقبل الحياة بكل تحدياتها وصعوباتها.” — مارك مانسون
لن أضع بين يديك في البداية التعريف الكلاسيكي للسعادة، فهذا مضيعة للوقت. ولكن من المهم أن نتجاذب أطراف الحديث من زاوية فلسفية حول هذا المفهوم الكوني الذي أمضى العلماء والحكماء دهورًا وقرونًا في دراسته وتشريح ماهيته، وتبيان أبعاده، وتفكيك معانيه.
كلنا نبحث عن السعادة ونسعى إلى بلوغها ببذل الغالي والنفيس. ربما تجد سعادتك في تأمل غروب الشمس. ربما تحس بالسعادة وأنت معتكف في منزلك الريفي البسيط بعيدًا عن ضوضاء المدينة وصخبها الذي لا يُطاق.
من الممكن أن يخالجك الشعور بالسعادة لأسباب بسيطة جدًا: ربما يكون تناولك لآيس كريم في يوم صيفي شديد الحرارة أو قراءتك السريعة لهذا المقال… ربما يكون ذلك مصدرًا لسعادتك…
من يدري؟
ما السعادة إذًا؟ فلسفيًا، ماذا تعني؟
السعادة هي الغاية التي يسعى إليها البشر منذ الأزل، وهي المفهوم الذي يتراوح بين الشعور بالرضا الداخلي والسلام النفسي إلى تحقيق النجاح المادي والاجتماعي. ولكن في بعض الأحيان، يصبح السعي وراء السعادة هدفًا بحد ذاته، مما يؤدي إلى نتائج عكسية وأحيانًا كارثية.
هذه المفارقة قديمة ومناقشتها ليست جديدة؛ فقد تطرق إليها الفلاسفة والمفكرون عبر التاريخ، ومن أبرزهم الفارابي والغزالي، اللذان تناولا مفهوم السعادة وسبل تحقيقها في إطار أوسع من مجرد الرغبات المادية.
يُعد الفارابي أحد أعظم الفلاسفة في التاريخ الإسلامي، وقد أسس لفلسفة تسعى إلى فهم السعادة في سياق أوسع من التحصيل المادي. و يعتبر الفارابي السعادة هي الغاية القصوى التي يسعى إليها الإنسان، لكنها ليست هدفًا يمكن تحقيقه من خلال الرغبات الجسدية أو المادية فحسب. بل يرى الفارابي أن السعادة هي حالة عجيبة من التوازن الداخلي والتناغم بين القوى العقلية والنفسية للإنسان.
و يرى الفارابي أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا بالعيش وفقًا للفضيلة والحكمة. وهذه الفضيلة لا يصل إليها السالك باتباع الشهوات أو الملذات العابرة، بل من تحقيق الذات من خلال اكتساب المعرفة الحقيقية والسعي نحو الكمال العقلي والأخلاقي. وبالتالي، فإن الفارابي يربط السعادة بتطور الإنسان الفكري والروحي، ويرى أن الإفراط في السعي وراء المتع الحسية قد يؤدي إلى التعاسة لأن هذه المتع وقتية وزائلة.
من جهته، فإن أبا حامد الغزالي، الفيلسوف الإسلامي الشهير، كانت لديه رؤية نقدية متميزة تجاه السعي المفرط وراء السعادة، خصوصًا عندما ترتبط هذه السعادة بالملذات الدنيوية. ففي كتابه “إحياء علوم الدين”، يتناول الغزالي مفهوم السعادة من منظور ديني روحاني. و يرى الغزالي أن السعادة الحقيقية تكمن في القرب من الله عز وجل وفي التحلي بالأخلاق الفاضلة و التزام التعاليم الدينية.
و يحذر الغزالي من السعي المفرط وراء الملذات الدنيوية ويعتبره مضللًا لأنه يبعد الإنسان عن الهدف الأسمى للحياة وهو الوصول إلى رضا الله وتحقيق السعادة الأبدية في الآخرة. كما يتحدث الغزالي عن “الغفلة” التي تصيب الإنسان عندما ينغمس في الملذات المادية، مما يؤدي إلى انشغاله بالدنيا على حساب الآخرة.
و حسب الغزالي، هذا الانشغال ليس فقط مضيعة للوقت، بل هو أيضًا طريق يؤدي إلى التعاسة في النهاية، لأن اللذة الحسية مهما كانت ممتعة فهي زائلة وغير دائمة.
و بينما يركز الفارابي على السعادة من منظور فلسفي قائم على العقل والفضيلة، يركز الغزالي على السعادة من منظور ديني و روحي. لكن كليهما يتفقان على نقطة محورية وهي أن السعي المفرط وراء السعادة من خلال الملذات الحسية أو المادية يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يتحول البحث عن السعادة إلى مصدر مباشر للتعاسة.
لنركب قطار الزمن ونترك خلفنا الفارابي والغزالي… قرابة ألف عام بين زمنهما وزمن الرقمنة ومنصات التواصل الاجتماعي.
أي لباس تتشح به السعادة إذًا في عصر الشبكات والعالم الرقمي؟
إن الناظر إلى هذا العالم الجديد يلاحظ بسهولة أن وسائل التواصل الاجتماعي أضحت أشبه بمرآة عاكسة لصور مبهرجة ومزيفة للسعادة والنجاح، لكنها في كثير من الأحيان تخفي وراءها واقعًا مغايرًا. تتجلى هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر في العروض المتواصلة لحياة مثالية، حيث يسعى الأفراد إلى خلق صورة مشعة لأنفسهم، مدفوعين برغبة عميقة في الحصول على القبول الاجتماعي والتباهي أمام الآخرين.
لكن، ما الذي يدفع هؤلاء إلى هذا السلوك؟ وما هي التداعيات النفسية والاجتماعية التي تترتب على هذا الاستعراض الزائف؟
يشير عالم الاجتماع زيجمونت باومان، في تحليله لمفهوم “الحداثة السائلة”، إلى أن العلاقات الإنسانية في هذا العصر أصبحت هشّة وغير مستقرة، تمامًا مثل السلع التي نستهلكها يوميًا. ومن هذا المنطلق، يمكننا فهم السعادة التي تُعرض على منصات التواصل الاجتماعي كسلعة أخرى تُستهلك وتُستبدل بسرعة فائقة. فهي ليست سعادة حقيقية مستقرة، بل قناع يتبدل حسب المتطلبات الاجتماعية والضغوط النفسية التي يفرضها الفضاء الرقمي.
هذه السعادة “السائلة” حسب باومان تفتقر إلى الأصالة والاستدامة، وتغذي في النهاية شعورًا بالفراغ والاغتراب عن الذات، حيث يصبح الهدف الأساسي منها إرضاء توقعات الآخرين، وليس تحقيق الرضا الشخصي أو الرفاهية الحقيقية.
معنى ذلك ببساطة هو البحث عن تقدير الآخر، على حساب الذات، بما يفضي إلى حالة من القلق والاغتراب في العالم.
لعل الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد يمكن أن يدلي بدلوه في هذا الاتجاه لأنه من أكثر الفلاسفة المحدثين الذين درسوا مفهوم القلق.
من المؤكد أن كيركغارد لم يعاصر ثورة وزمن شبكات التواصل الاجتماعي، لكنه كان متعمقًا في دراسة فكرة القلق الوجودي واليأس الذي ينبع من انفصال الإنسان عن ذاته الحقيقية. وفي سياق وسائل التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نرى هذا اليأس يتجسد في محاولات الأفراد المتكررة لإظهار أنفسهم بمظهر السعادة والنجاح، رغم أن حقيقتهم الداخلية قد تكون بعيدة كل البعد عن هذا المظهر.
من منظور كيركغاردي خالص، نعتقد أن السعادة المزيفة التي تُعرض عبر الإنترنت تعكس نوعًا من اليأس الوجودي، حيث يحاول الفرد أن يكون شيئًا آخر غير ذاته الحقيقية، مما يؤدي في النهاية إلى مزيد من الانفصال والضياع.
الأمر ينتهي بخلق فجوة حقيقية بين الواقع المعيش وجنة الأحلام التي يعد بها الشخص متابعيه على السوشيال ميديا.
دعونا الآن نفهم المسألة بنوع من العمق…
قبل أزيد من مئة عام من لحظة مطالعتك لهذه السطور كان الأديب الروسي أنطون تشيخوف بارعًا في تصوير التناقضات الاجتماعية والبؤس الذي يعيشه الأفراد في المجتمع الروسي الذي عاش فيه، حيث سلط تشيخوف الضوء على الفجوة بين ما يعيشه الأفراد فعليًا وبين ما يظهرونه للآخرين، وهي فكرة يمكن إسقاطها بوضوح على سلوكيات الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم.
في هذا الصدد، يمكننا أن نفهم السعادة المزيفة كقناع يستخدمه الأفراد لإخفاء التحديات والصعوبات الحقيقية التي يواجهونها، مما يزيد من الفجوة بين الذات الحقيقية وما يُعرض للعالم الخارجي.
نعتقد دون أدنى ميل للتفلسف أن السعادة الحقة تتطلب مواجهة الحياة كما هي، بنعيمها وجحيمها، بأفراحها وأتراحها، بآمالها وآلامها…
هنا أستحضر أيقونة من عالم الأدب وبالخصوص مجال السيرة الذاتية… أفكر في محمد شكري، الأديب المغربي العالمي (حيث ترجمت روايته [الخبز الحافي] إلى 39 لغة ودرست في أزيد من 80 جامعة بالعالم) المعروف بواقعيته الصارخة، والذي عُرف بقدرته الفذة على مواجهة ومقارعة الحياة كما هي، دون تجميل أو تهرب.
ففي سيرته الذاتية “الخبز الحافي”، يعرض شكري حياة الصعلوك المتشرد التي اكتوى بنيرانها في شمال المغرب بأدق تفاصيلها، بل بكل ما تحمله من عميق الألم.. و من خلال هذا المنظور، يمكننا اعتبار السعادة المزيفة التي تُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من الهروب من مواجهة الحقيقة. ففي حين يواجه محمد شكري الحياة بكل ما فيها من تحديات، ويأكل من القمامة ويعاني من الإدمان والفقر الشديد، يفضل الكثيرون عرض حياة مثالية على الإنترنت، هروبًا من الواقع الذي يعيشونه.
ودائمًا في عالم الرواية والأدب، يتناول الكاتب المصري علاء الأسواني، المعروف بنقده الاجتماعي اللاذع، التناقضات العميقة في المجتمع المصري. ففي روايته “عمارة يعقوبيان”، نجد شخصيات تعيش حياة مزدوجة، حيث تتظاهر بالفضيلة بينما تخفي واقعًا أكثر تعقيدًا.
ولعل هذا التناقض يظهر بوضوح في عصرنا الحالي، حيث يعرض الأفراد صورًا مثالية لحياتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أن حياتهم الحقيقية قد تكون بعيدة كل البعد عن هذه المثالية.
من خلال تأملاتنا في آراء هؤلاء المفكرين والأدباء، نجد أن الدوافع وراء استعراض السعادة المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن تلخيصها في عدة نقاط رئيسية:
- الهروب من الواقع: كما أشار تشيخوف وشكري، يمكن اعتبار السعادة المزيفة وسيلة للهروب من مواجهة الحياة الحقيقية بما فيها من تحديات.
- الضغط الاجتماعي والرغبة في القبول : يشير باومان وكيركغارد إلى أن هذه السعادة قد تكون نتيجة للضغوط الاجتماعية التي تدفع الأفراد إلى التماهي مع توقعات المجتمع الافتراضي، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة.
- الفجوة بين الذات الحقيقية والمظهر الاجتماعي : هذا التناقض الذي أشار إليه كيركغارد والأسواني يعكس شعورًا حادا باليأس والاغتراب عن الذات الحقيقية، مما يدفع الأفراد إلى خلق صورة بديلة تعكس ما يريدون أن يكونوا عليه، وليس ما هم عليه فعلاً.
في الختام، يمكن القول إن السعادة المزيفة والاستعراضية على وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد ظاهرة عابرة و سطحية، بل هي انعكاس لتعقيدات نفسية واجتماعية أعمق. وكما يشير مارك مانسون في كتابه فن اللامبالاة، فإن “السعادة الحقيقية لا تأتي من السعي الدائم لتحقيقها، بل من تقبل الحياة كما هي، بكل تحدياتها وصعوباتها.”
ولعل هذا التقبل، بحسب مانسون، هو ما نفتقده بشدة في سلوكياتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ نعتقد أن إظهار السعادة على الإنترنت سيجعلنا مقبولين ومحترمين من الآخرين، ولكن الحقيقة هي أن هذه الاستعراضية ما هي إلا لعبة خادعة مزيفة تجعلنا أكثر بعدًا عن ذاتنا الحقيقية، وأكثر تشبثًا بصور وهمية لا تجلب لنا إلا المزيد والمزيد من الخواء و البؤس والاغتراب في العالم.