بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تكثفت في الأيام القليلة الماضية حملة الاتصالات الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة وما زالت، وتزايدت واشتدت وتيرتها بعد اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وأخذت أشكالاً عدةً وصوراً مختلفة، سريةً وعلنيةً، مباشرةً وعبر وسطاء، وعلى كل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية.
تمثلت أعلاها في الاتصالات الهاتفية التي أجراها الرئيس الأمريكي بايدن شخصياً، مع ملوك ورؤساء وأمراء بعض الدول العربية، ومع رئيس حكومة دولة الكيان الصهيوني، وقادة وزعماء دول أوروبا الغربية، لحثهم على ضرورة التعاون مع واشنطن في إعادة تنظيم المنطقة وترتيب أوراقها، وضمان الأمن والاستقرار، والعمل على عدم توسع الحرب وانتقال القتال إلى جبهاتٍ أخرى، والقبول بالصفقة التي عرضها، والالتزام ببنود قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر بموجبها.
وإلى جانبه نشط وزير خارجيته أنطوني بلينكن، الذي أرجأ زيارته الأخيرة التي كان ينوي القيام بها عشية المفاوضات التي دعت إليها بلاده مع قطر ومصر، يوم الخامس عشر من شهر آب الجاري، أي يوم غدٍ الخميس، لمحاولة التوصل إلى اتفاقٍ لوقف الحرب في قطاع غزة، والمباشرة في تبادل الأسرى، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس وقوى المقاومة الفلسطينية.
وهو على الرغم من الإرجاء المفاجئ لزيارته، فقد أبقى على خطوط اتصاله ساخنةً مع المسؤولين في المنطقة، وأطلق العنان للناطقين باسم وزارته للتعبير عن مخاوفه، واستعراض وساوسه، والكشف عن مخططاته ومشاريعه، فهو يرى أن الأوضاع تزداد صعوبة، والتوتر يشمل المنطقة كلها، وأن الغضب فيها يتزايد ويتعالى، وأن الأمور قد تفلت من بين يدي القادة والمسؤولين، وأن الشعوب قد يكون لها كلمة ووقفة أخرى، تهدد الاستقرار وتقلب الطاولة، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والقدس والضفة، والعدوان على لبنان وإيران، وارتفاع الأصوات المنادية بالرد والانتقام، وتوجيه ضرباتٍ قاسيةٍ متزامنة ومتوازية ومنسقة بين دول محور المقاومة ضد أهدافٍ حيويةٍ في الكيان الصهيوني.
لكن على الجانب الآخر من الحركة الأمريكية الدبلوماسية النشطة، وبالتزامن مع حركة البوارج الحربية وحاملات الطائرات والغواصات، ووصول آلاف الجنود والضباط من كل الفرق والتخصصات إلى المنطقة، نجد أن هناك اتصالات خفية تجري وراء الكواليس، في باريس ولندن ولشبونة وروما وغيرها، وعمليات تنسيقٍ سريةٍ مع دول المنطقة، يجريها مسؤولون عسكريون وأمنيون أمريكيون كبار، يتقدمهم وزير الدفاع وقادة القوات الأمريكية في المنطقة، وغيرهم من كبار الضباط والمسؤولين العسكريين، ورؤساء الأجهزة الأمنية في دول المنطقة.
هذه الاتصالات هي التي تكشف النوايا الحقيقية الأمريكية في المنطقة، وتفضح اتصالاتها مع دولها، وتبين حقيقة التحالف الذي تسعى إلى تشكيله، والدول التي تريد أن تلحقها به وتضمها إليه، والمهام الموكولة إليها، والأدوار التي يجب أن تقوم بها، وتشير إلى مركزية الكيان الصهيوني في هذا الحلف، ومكانته المميزة فيه، جاراً طبيعياً، وشريكاً حيوياً، وحليفاً مؤتمناً، ودولة معترفاً بها ومصانةً حقوقها، وتعرض على الأطراف الغاية والهدف من تشكيل هذا الحلف، الذي يجب أن يكون له الدور الأكبر في اليوم التالي لوقف الحرب في غزة.
الإدارة الأمريكية خائفة على الكيان الصهيوني، ولم تعد تركن عليه أو تطمئن إليه، فهو غير قادر وحده على حماية نفسه، أو الدفاع عن مصالحه، ورد الخطوب والأخطار عنه، وقد تبين لها قطعاً أنه في حاجةٍ دائمةٍ إليها وإلى حلفائها الغربيين، للدفاع عنه وحمايته، وتزويده بالأسلحة والمعدات، وبالذخائر والآليات، وتأمين حدوده والحفظ على سلامة جيشه ومستوطنيه.
وهي تعلم أنه طائشٌ أهوجٌ، معتدي أحمق، يغامر ويقامر ولا يحسب العواقب، ويعتدي وينتهك ظناً منه أن أحداً لن يصده، أو يقوى على منعه، وما علم أن الشعوب التي ظلمها لن تصبر على أذاه، ولن تقبل جوره، ولن تسكت عن حقها، ولن تفرط في أوطانها، ولن تقبل بالمس بشرفها، أو انتهاك سيادة بلادها، أو الاعتداء على مواطنيها، وهي لذلك ستبقى تقاومه، ولن تتوقف عن قتاله، حتى تستعيد حقوقها، وتعود إلى أوطانها، وهذا حقها الطبيعي والمشروع، الذي لن تبطله القوة، ولن يضعفه الظلم.
لهذا كله تريد الإدارة الأمريكية أن تخلق تحالفاً جديداً في المنطقة، تكون الدول العربية عماده والعمود الفقري فيه، والورقة التي تستر بها نواياها السيئة، وتجمل بها أهدافها القبيحة، حيث ستكون مهمته الوحيدة والأساس، والأولى والأخيرة، حماية الكيان الصهيوني واحتضانه، وتأمين محيطه وضمان أمنه، والاعتراف به شريكاً طبيعياً معهم، وتلبية حاجاته والاستجابة إلى طلباته، والعمل على تذليل الصعاب أمامه، ومنع أي محاولة للمساس بأمنه، أو تهديد وجوده والتأثير على استقراره وسلامة مستوطنيه.
حذاري على الدول العربية، القريبة والبعيدة، أن تخون دينها وأمتها، وأن تفرط في قرآنها وأقصاها، وأن تنجر وراء الإدارة الأمريكية، وأن تنساق خلف مخططاتها، وأن تصبح أداةً في يدها، ووسيلةً تستخدمها، وأن تقبل بالوظائف القذرة التي تهيئها لها، وتفرضها عليها، وتريد منها أن تقوم بها بالإنابة، وأن تضطلع بها بخسةٍ ونذالةٍ، ولتعلم يقيناً أنها خبيثة النية والقصد، وغير صادقة الوعد والعهد، فهي تريدها أن تكون بيدقاً في حروبها على قوى المقاومة ودولها في المنطقة، وضد فلسطين وأهلها، لصالح كيانٍ نعرف تاريخه، ولا ننسى ماضيه، ونذكر جرائمه، وندرك أحلامه، ولا تخفى علينا أطماعه، ولا تنتهي ضدنا مؤامراته.