مع الصابرين
< عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ > – حديث شريف. (رواه مسلم)
كانت رياح ديسمبر تعزف سيمفونيتها المكررة على أوتار الشوارع الصامتة، التي تبدو وكأنها شظايا من حلم أبيض ناصع. و كانت كل نغمة تصدر عن برد هذا العام تحمل في طياتها طيفًا من الأحاسيس المتباينة؛ تبدأ بلمسة خفيفة أشبه بالسحر، ثم تتحول إلى لحن ثقيل يكتم الأنفاس ويتسلل ببطء إلى العظام، لتغدو جزءًا لا يتجزأ من البدن، بل قطعة تتغذى على أعماق الروح.
و كانت ندف الثلج تستمر في السقوط من السماء، ومعها كان اللحن الذي تتخيله وأنت تقرأ هذه الكلمات يتعالى دون نشاز، ليشكل خلفية لمشهد يبدو وكأنه خارج من عالم سريالي غامض تعجز عن وصفه حروف الهجاء.
و كان الثلج يتساقط ببطء، وكأنه موسيقى بلا صوت لكنها ضاجة ونابضة بالحياة. و كانت هذه الموسيقى تتدفق من مكانٍ بعيدٍ لا يُدركه إلا من استطاع أن يسبر أغوار هذا السكون الجليدي بعين قلبه قبل حواسه الخمس.
و كانت ندف الثلج تتحرك كما لو كانت جيشًا من الممثلين على خشبة المسرح في عرض شعبي جماهيري ضخم يحضره الملايين. وفي لحظة غريبة، بدت له وكأنها ترقص على وقع لحن سري، ناعم وخفي، مثل معزوفة خالدة لبيتهوفن تُدوي فقط في قلوب أولئك الذين يمشون ببطء في عز الشتاء.
و كان صوت الثلج عندما يلامس الأرض يشبه همسة تأتي من قلب الطبيعة، ولا يسمعها الجميع. إنها موسيقى خافتة، أشبه بلحن هادئ، تعزفه أصابع غير مرئية تضغط برفق على مفاتيح البيانو، تاركة وراءها رنيناً ناعماً يتناغم مع دقات قلب المدينة الغارقة في السكون.
كان الثلج يُغطّي الأسطح والطرق كما تغطي الألحان عالم الموسيقى. وكل ندفة ثلج كانت تمثل نوتة موسيقية منفصلة، وفي نهاية المطاف تتحد جميعها لتصنع سيمفونية من الهدوء الآسر الذي يعيد تشكيل كل شيء من حوله.
صحيح… برد هذا الشتاء لاذع لا يطاق، لكن ما يهدهد الخاطر ويصبر القلب أن ندف الثلج المتراكمة في المدينة تسربل الكون بغلالة بيضاء بهية، وكأنها فستان عروس تزف إلى محبوبها.
ويومذاك، بدت شوارع بوردو هادئة وخالية إلا من آثار الأقدام التي تركها بعض المارة، وكأنها لوحات فنية رسمها الزمن على هذا القماش الأبيض. وفي هذا الصباح البارد، كان موزع الجرائد، علاء الدين، يستعد لبدء يوم حافل.
كان علاء شاباً بسيطاً ومجتهداً، يدرس في الزوال والمساء إلى ساعات متأخرة، ويخصص كل صباحات الأسبوع للعمل في توزيع الجرائد.
و لم يكن عمله سهلاً بالمرة، فهو يبدأ في الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة من كل صباح، متجاهلاً قسوة الطقس. كان يتحمل برد الشتاء، وقيظ الصيف اللاهب، وأمطار الخريف، والتقلبات اللانهائية للربيع. لكن، رغم كل شيء، لم تغب الابتسامة عن وجهه. و كانت ابتسامته تفيض بالحب والعذوبة، وتنعكس على وجوه من يلتقيهم، كأنها شمس صغيرة تُشرق وتفتح لها مئات النوافذ في قلوبهم.
وعلى مدار عامين متواصلين، عمل علاء في محطات الترامواي المختلفة بالمدينة: ستالينغراد، لافكتوار، أوتيل دوفيل، وساحة كليشي. وكان من عادته أن يمر بهذه المحطات كل صباح، دافعاً عربته المليئة بالجرائد، منطلقاً وهو مفعم بالنشاط والفرح.
كان يستمد طاقته من روحانية الفلاسفة الكبار. ففي إحدى قراءاته الأخيرة، ما زال يتذكر قول الرومي الذي لقوته أصبح يرن كالجرس في أعماق قلبه ولاوعيه:
“دع الحب يقودك، فهو النور الذي يضيء ظلمات الطريق.”
كان علاء الدين يتذكر كل يوم حياته البسيطة نواحي ورزازات، ووجوه أهالي القرية الفياضة بالبشر، وكيف كان كل واحد يهب لمساعدة الآخرين دون أن يُطلب منه. كان منبهراً بهذا المد الأخوي التضامني الذي يميز سكان قريته الرابضة في حضن الجبل. وفي كل مرة يفكر:
“لعل أقوى شيء في الحب هو عدم قدرة الكلمات على توصيفه والإحاطة به. أبي مثلاً.. لم أتذكر يوماً أنه عبّر لنا عن حبه بالكلمات، لكن حبه لنا كان عظيماً لا يوصف. فهو سلسلة لا منتهية من الصبر على الشدائد والتضحيات والعمل الدؤوب ليلاً ونهاراً. أبي كانت تخونه الكلمات للتعبير عن حبه، وربما كان يعتقد أن الإفصاح عن الحب إساءة لقدسيته… لكن يكفي أنه كان مؤمناً حتى النخاع أن الحب هو سر النجاح والقيادة في المجتمع، سواء كان حباً لله تعالى، أو حباً للعائلة والأصدقاء، أو حتى حباً للحركة والعمل.”
كانت عادة علاء أنه كل يوم بعد فراغه من توزيع الجرائد كان يقصد مسجد “التقوى” بوسط بوردو قبل صلاة الظهر، وهناك كان الشيخ إسماعيل ينتظره بوجه متهلل الأسارير.
و كان الشيخ إسماعيل إمام المسجد رجلاً طيباً، معروفاً بحكمته وبشاشته. و كل يوم، كان يأخذ الجريدة من علاء الدين بابتسامة بيضاء ناصعة، ويتبادل معه بضع كلمات لطيفة قبل أن يختفي في ظلال المسجد.
و كانت كلمات الشيخ إسماعيل تنبض في قلب علاء على مر السنين، ولها مفعول تحويلي وتطهيري يفوق مئات الكتب التي قرأها علاء في السنوات الأخيرة:
“علاء، واصل عملك دون كلل أو ملل، فإن الله يحب من يحب عمله”.
“النجاح، كما يقول الغزالي، يكمن في حبك لما تفعل، مهما كان بسيطاً”.
كان علاء في كل مرة يتلقف كلمات الشيخ إسماعيل كما يتلقف الظمآن قطرات الماء في بيداء مقفرة بلا بداية ولا نهاية.
و كان لحكم الشيخ إسماعيل تأثير كبير على علاء الدين. فكلما شعر بالتعب أو الإرهاق، كان يستذكرها ويستحضرها في فؤاده، فتعود إليه طاقته وتغمر قلبه بالسكينة.
و في لحظات تأمله الطويلة قبيل الخلود للنوم، كان من عادة علاء الدين أن يستدعي أيضاً كلمات رابعة العدوية، وما تحمله من حب إلهي خالص:
“أحبك حبَّين، حبَّ الهوى وحباً لأنك أهل لذاكا”.
و كان هذا الحب الصادق والروحاني الذي وجده بكثرة لدى فلاسفة الإسلام الكبار، هو ما يحفز علاء الدين على الاستمرار في مواجهة صعاب الحياة والتعامل مع الناس بحب واحترام.
و كان علاء مثل رابعة… يرى في كل يوم جديد فرصة لتجديد هذا الحب في عمله، معتبرًا أن الابتسامة والكلمة الطيبة جزء أساسي من عبادته اليومية.
و إلى جانب هذه الأعمدة الفكرية والروحية، كانت هناك شخصيات من لحم ودم تؤثر في حياة علاء الدين اليومية.
انطوانيت…
في الخامسة والسبعين، متينة البنيان، ضاحكة الوجه من غير تكلف، وعيناها بحور من الحنان. تعيش وحيدة في شقة صغيرة تطل على ساحة كليشي. و كل صباح، كانت تقف عند شرفة البيت تنتظر مرور علاء الدين لتنزل إليه وتأخذ جريدتها.
و كانت أنطوانيت تسأله دائماً: “ما سر هذه الابتسامة الجذابة التي لا تفارق شفتيك؟”
و في كل مرة كان علاء الدين يجيبها بنفس الكلمات: “أنا مثل أبي، لا أتقن التعبير عن الحب، لكن دعيني أعترف لك أن سرها هو الحب. ألم تقرئي لابن عربي حين قال: الحب هو سر الوجود؟”
و كانت أنطوانيت مثالاً نادراً للإنسان الأوروبي الذي ينزل من عليائه ليتواصل مع الأجانب. و كانت تجد في الحديث مع علاء الدين دفئاً يملأ قلبها، دفقاً قادماً من شمال إفريقيا حيث الشمس والوُد، والاتحاد مع الطبيعة، والكثير من العفوية والعيش على السجية.
وكانت أنطوانيت تعتبر علاء الدين بمثابة حفيد لها. وبدوره، كان علاء يشعر أن هذه العجوز السبعينية مختلفة، ربما لأن زوجها الأول كان مغربياً حارب مع فرنسا في الهند الصينية قبل أن يلفظ أنفاسه في حادثة سير مروعة في السنوات الأخيرة.
و كانت أنطوانيت تحمل في قلبها حكايات كثيرة دسمة لا يمل السامع منها: ذكرياتها مع الحرب العالمية الثانية، العصر الذهبي لفرنسا في الستينيات والسبعينيات، ناهيك عن انتكاسة القيم في فرنسا إبان دخولها للاتحاد الأوروبي… وحكايات أخرى كثيرة وطويلة تكاد لا تنتهي.
و لكن زمن اللقاء المحدود بين علاء وأنطوانيت لم يكن يسمح لهما بسرد كل تلك القصص.
و كل صباح، كان علاء يتمنى أن يكون لديه الوقت الكافي للجلوس معها، والاستماع إلى حكاياتها المصطبفة بعبق التاريخ. و لكن العمل في توزيع الجرائد كان ملزماً ومنظماً، ولم يكن يترك له فرصة لذلك.
و مرت الأيام، وربما الأسابيع، وكل شيء كان يمضي بشكل طبيعي حتى بدأ علاء الدين يلاحظ غياب الشيخ إسماعيل عند مروره بمسجد “التقوى” في نهاية توزيع الجرائد.
في البداية، ظن علاء أن الشيخ إسماعيل مشغول بأمور شخصية. لكن، عندما استمر الغياب لأكثر من أسبوعين، بدأ القلق يتسلل إلى قلبه. و سأل بعض رواد المسجد عن الشيخ، فأخبروه بأنه طريح الفراش في المستشفى، و انه يعاني من وعكة صحية خطيرة.
لم يتردد علاء الدين في زيارة الشيخ إسماعيل في المستشفى. و كان الشيخ شاحب الوجه، يعاني من هزال شديد، مستلقياً على سريره في قمة التعب، لكنه كان لا يزال يحمل تلك الابتسامة الرقيقة التي يعرفها عنه الجميع.
قال الشيخ بصوت واهن: “علاء الدين، أنا مريض جداً. أشعر أنني على عتبة الموت، لكن هذه هي إرادة الله.”
اغرورقت عينا علاء الدين بالدموع، لكنه حاول أن يتمالك نفسه.
قال الشيخ مبتسماً: “لا تبكِ يا علاء الدين… اصبر لما أصابك. ألم تستمع إلى خطبتي الأخيرة في المسجد عن قيمة الصبر؟”
أجاب علاء الدين: “بلى، وكيف لي أن أنساها؟ لقد أثريتها بأحاديث جميلة وبآيات عظيمة من القرآن تحث على قيمة الصبر.”
ابتسم الشيخ إسماعيل وأضاف: “إن الله مع الصابرين. إذا انتقلت إلى الرفيق الأعلى، فاطلب منهم في المستشفى نسخة من القرآن. تركتها لك هدية مني. افتحها عند الآية التي تقول ‘إن الله مع الصابرين’، وستجد هناك رسالة وداع مني. اقرأها جيداً وتدبر معانيها.”
و مرت الأيام، وذات صباح علم علاء الدين أن الشيخ إسماعيل قد فارق الحياة. كانت لحظة صادمة زلزلت كيانه. لقد شعر بفقدان كبير، وكأنه فقد مرشداً روحياً كان يرافقه في دروب الحياة.
هرع علاء إلى المستشفى، وهناك طلب نسخة القرآن التي تركها له الشيخ. فتحها عند الآية التي ذكرها المرحوم، وكانت هناك مفاجأة تنتظره.
وعندما فتح علاء الدين القرآن عند الآية التي ذكرها الشيخ إسماعيل، “إن الله مع الصابرين”، وجد ثلاث صور توثق لحظات مختلفة من حياته.و كانت كل صورة تحمل في ظهرها آية تتحدث عن الصبر.
كانت الصورة الأولى لعلاء الدين وهو يوزع الجرائد في محطة ترامواي ستالنغراد خلال أحد أيام الشتاء الباردة. و على ظهرها كتبت الآية: “واصبر وما صبرك إلا بالله”.
أما الصورة الثانية فكانت له وهو يساعد أنطوانيت في حمل أغراضها إلى شقتها. و على ظهرها لاحت الآية: “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”.
أما الصورة الثالثة، فكانت لعلاء الدين وهو يقف أمام مسجد بوردو، مبتسماً وهو يتحدث مع بعض مريدي الشيخ إسماعيل. وعلى ظهرها كانت الآية: “واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين”.
و كانت كل صورة تمثل جزءاً من حياة علاء الدين وتحمل معها رسالة عميقة عن الصبر والتفاؤل لمواجهة تقلبات الزمن.
تأثر علاء الدين بشدة لهذه الصور والآيات. و أدرك أن الشيخ إسماعيل كان أكثر من مجرد إنسان روحاني؛ لقد كان منجماً من الحكمة ومشكاةً من النور الإلهي. لقد كان يعلم أكثر مما يظهر، ولعله كان يراقب شتى تفاصيل حياة علاء الدين مثل الشاهد الصامت.
“رحلت عنا يا شيخنا وأبانا إسماعيل، لكن الصور والآيات التي أومأت إليها تخلد ذكراك، أيها الغائب الحاضر.”
كانت تلك الصور والآيات ليست مجرد وداع من الشيخ إسماعيل، بل كانت أيضاً رسالة أمل وتمسك بالحياة. فكل صورة كانت درسًا إضافيًا في الصبر والحب والعمل بإخلاص.
“منك تعلمت، يا شيخي وحبيبي في الله، أن الصبر مفتاح الفرج، وأن الحب والعمل بإخلاص هما السلاحان اللذان يمكناننا من مقاومة الصعاب.
منك تعلمت أنني حين أعمل، فأنا لا أكتفي بتوزيع الورق، بل أخشع وأعبد الله و اغمر ببهاء حضرته، من خلال تقديم الأمل والحب المتوقد في فجر جديد.”
استمر علاء الدين في عمله بنفس الروح التي تعلمها من الشيخ إسماعيل. و أصبح يرى في كل جريدة يحملها رسالة قد تؤثر في حياة شخص ما، تماماً كما كان الشيخ إسماعيل يحمل تلك الرسائل الخفية في قلبه.
و كانت كل جريدة يضعها بين يدي المارة أكثر من مجرد قطعة من الورق؛ كانت رمزاً لكلمة طيبة، ونظرة متعاطفة، وشحنة أمل. ومع كل جريدة، كانت هناك ابتسامة مليئة بدروس لا تحصى عن الحب و الحلم و التريث :