“إذا كنت لا تملك شيئاً تأكله، ستأكل نفسك في النهاية” — إميل زولا.
في هذا الوطن، نعيش بين تناقضات لا تُحصى. نرفع الأعلام ونصرخ باسم الوطن في لحظات الحماسة، ولكن ما إن تنتهي الصيحات حتى نجد أنفسنا غرباء، بلا قيمة، مجرد أرقام تضاف إلى إحصائيات الفقر والبطالة. نسير في الشوارع المليئة بالأوساخ والحفر، نبحث عن بصيص من الأمل في زوايا مظلمة من واقع يزداد قسوة كل يوم. منذ عقود طويلة عبر محمد شكري عن هذا الواقع المر بقوله : “الفقر هو أقسى السجون، يحيط بنا من كل جانب ولا يترك لنا مجالًا للهرب”.
بالفعل، الفقر يجعل من يكتوي بلهيبه يعيش في سجن رهيب لا يرحم، أحيانًا هو من يصنع السجن، وأحيانًا يبنى هذا السجن بأيدي من يستغلون الفقراء تحت شعارات فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع. في هذا الوطن، الوطن الذي نحبه ونتعلق به، نحن ضائعون، تائهون، نبحث عن الكرامة والحرية الحقيقية التي لا نجد لها أثراً في شوارعنا، ولا حتى في قلوبنا.
لعلك كنت أحد أولئك الذين خدعتهم الأوهام، فرفعوا الأعلام على أكتافهم ودخلوا المقهى ليشاهدوا المنتخب الوطني وهو يلعب ضد خصمه الفلاني. صرخت، وتمددت حبالك الصوتية حتى انقطعت، وفي النهاية، خسر المنتخب. بل الأدهى من ذلك أنك خسرت أيضًا؛ دفعت ثمن عشرة مشروبات لك ولرفاقك الذين لم يفعلوا شيئًا سوى الجلوس والتفرج معك. والآن؟ توقف لحظة واسأل نفسك: هل هذه وطنية؟ أنت تخرج إلى الشوارع ولا ترى سوى الأوساخ والغبار والحفر، وجيش الذباب المتسكع يملأ الزوايا، والجميع يمضغ خيباته. هل تشعر بشيء؟ هل تشعر بالوطن؟
راجع نفسك يا حبيبي. أولئك الذين يهتفون باسم الوطن هم أول من خانوه. هؤلاء الذين يرتدون الألوان الوطنية في المدرجات لا يدركون أن الوطنية الحقيقية ليست في الشعارات الجوفاء. الوطنية ليست في الصراخ، ولا في رفع علم. هي في كرامتك، في أنك تعيش حياة لا تخجل فيها من النظر إلى نفسك في المرآة. لكن ماذا ترى عندما تمشي في شوارع مدينتك؟ كل شيء خربان متعفن. الناس بوجوههم المكدرة، يعيشون في دوامة من الإحباط. الجيوب فارغة، مثل القلوب، والآمال. كلها دفنت تحت أكوام القمامة.
الغني يهرب من هذا الخراب. يهرب إلى ميامي، إلى روما، إلى دبي حيث يقضي الإجازة تلو الأخرى. لا يهتم. هو لا يعرف ما يعنيه أن تقاتل من أجل أن تدفع الإيجار أو أن تحلم بماء لا ينقطع. لا يعرف ما يعنيه أن تدخل السوق لتجد أن كل شيء أصبح أغلى مما كنت تعتقد أنه يمكن أن يصبح. الغني لا يشعر بشيء. يبرمج عطلاته كما يبرمج مصيره. بينما الفقراء؟ يقاتلون من أجل البقاء، يختبئون بين الحفر التي تغطي شوارعنا ونتمنى ألا نسقط في إحداها.
أخبرني، هل تعتقد أن الوطنية هي الصراخ في المقاهي؟ هل تعتقد أنها في الأعلام والاحتفالات الفارغة؟ الوطنية هي أن تعيش بكرامة. لكن أخبرني، هل نعيش بكرامة حقاً؟ الأغنياء يزدادون غنى، وماذا عن الفقراء؟ إنهم ينزلقون نحو الهاوية. والهوة بيننا وبينهم تزداد عمقاً، وأنت، يا صديقي، تغرق فيها يوماً بعد يوم.
اسمعني جيداً: نحن نعيش في مجتمع مقسوم إلى نصفين. نصف يجلس في الأبراج العالية، والنصف الآخر يتضور جوعاً على الأرض.
لعلك تتساءل أين الخلل؟ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسُؤكم. لقد فقدنا جميعاً الإحساس بالواقع. الأغنياء لا يهتمون بالفقراء، لا يعيشون في نفس عالمهم. والفقراء مجرد ظلال بالنسبة لهم، مجرد عناوين في تقارير الأخبار. وهذا الوطن بالنسبة لهم مجرد مكان لأموالهم واستثماراتهم. يستخدمون الوطنية عندما يحتاجون إلى صوتك في الانتخابات، أو عندما يريدون منك أن ترفع العلم وتصرخ باسم الفريق الوطني. ثم يختفون في عالمهم المترف.
الغرباء يعيشون في وطن لا يعرفهم ولا يعرفونه. الشوارع مليئة بالقمامة، والخدمات تنهار، وكل شيء يسير نحو الأسوأ. فهل تظن أن الوطن بات يتحمل مواطنيه؟
كان دوستويفسكي محقاً حين قال: “الغني لا يشعر بألم الفقير، حتى لو كان جاره يحترق في الجحيم”. وبالتالي فالأغنياء يعيشون في عالمهم الخاص، حيث كل شيء يبدو جميلاً.
إن غابرييل غارسيا ماركيز لو كان واقفاً هنا لصرخ بأعلى صوته: “في عالم الأغنياء، كل شيء لامع، لأنهم لا يرون القذارة”.
وماذا عن علاء الأسواني؟ لعله قد يقول ساخراً: “نحن نعيش في وطن يمجد الوطنية، لكننا لا نرى سوى شعارات رُسمت على جدران متهالكة”.
صدقني يا صاحبي، الغربة الحقيقية ليست في البعد عن الوطن. الغربة هي أن تعيش في وطن لا يعترف بك. أن تصبح مجرد رقم في إحصائيات الفقر والبطالة. أن تشعر بأنك لن تكون جزءاً من هذا العالم الذي يعيش فيه الأغنياء. أن تدرك أن القواعد التي تحكم حياتهم ليست هي القواعد التي تحكم حياتك.
أليست هذه خيانة؟ الخيانة ليست في أن تبيع وطنك للعدو. الخيانة هي أن تترك الناس يغرقون في الفقر بينما تجلس في برجك العاجي وتبتسم في صمت. الأغنياء الذين يهتفون باسم الوطن قد خانوه. خانوه حين تجاهلوا معاناة الفقراء. خانوه حين استفادوا من ثرواته وتركوا البقية يتصارعون على الفتات. خانوه حين جعلوا الوطنية مجرد كلمة فارغة، وعندما تركوا الوطن ينزف من الداخل.
الوطنية ليست في رفع العلم في المقاهي. الوطنية هي أن تعيش بكرامة. أن تشعر بأن هذا الوطن يهتم بك، يمنحك ما تحتاجه لتعيش حياة لا تخجل فيها. ولكن طالما أن الهوة بين الأغنياء والفقراء تزداد عمقاً، ستظل الغربة الحقيقية تطاردنا جميعاً، وستظل الوطنية مجرد وهم.
ربما كان تشارلز بوكوفسكي سينضم إلينا ويقول: “العالم ملك للأغنياء، ونحن مجرد متفرجين في هذا المسرح العبثي”. لكن هذا ليس مسرحاً. إنه الجحيم الذي نعيشه كل يوم.
إن الفقراء، الذين يبنون الوطن بأيديهم الممزقة، يجدون أنفسهم في الهامش وهذا هو منتهى الظلم. يرفعون الأعلام، يهتفون، يصرخون، ثم يعودون إلى بيوتهم الخاوية.
وماذا بعد؟
ليست هناك نهاية سعيدة للقصة، فهم يرجعون إلى ديارهم ويعلقون آمالهم الجريحة على مشجب اليأس.