الحْريكْ الجماعي.. غربة وطن أم غربة هوية؟!
في ليلة سوداء بيضاء، ييغمرها الهمس المعلن، ويكسوها الخوف والحماس، شهدت منطقة الفنيدق المحاذية لمدينة سبتة ليلة الأحد 15 سبتمبر 2024 محاولة هجرة جماعية كبيرة، هي سابقة من نوعها، حيث تجمع عشرات الشباب خصوصا الفئة المراهقة الحالمة، تجمعوا بالقرب من الحدود في محاولة للعبور إلى سبتة، الأرض “المقدسة” والتي تستحق عليها كل الأحلام..
تحت ضوء القمر المتسلل من بين الغيوم في ليلة الأحد المظلمة، وبين همسات الرياح الباردة، كان العشرات من الشباب يقفون على أعتاب الحدود الفاصلة بين الفنيدق وسبتة، عيونهم معلقة على أمل ضائع وحلم مغتصب. لم يكن في تلك الليلة حديث عن الأمان أو المستقبل المستقر، بل كانت الأرواح المرهقة تتوق لعبور تلك المسافة القليلة نحو المجهول، حيث يتلاشى الأمل في غياهب البحر والحدود
هذه الأحداث جاءت بعد أسابيع من التحضيرات التي شملت نشر دعوات علنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على “الحريك”. القوات الأمنية المغربية كانت في حالة استنفار، إذ أغلقت الطرق وأقامت سدودا أمنية لمنع الوصول إلى الحدود… حدود تلاشت بين اليأس والأمل، حيث يقف عشرات الشباب على حافة المجهول، يحملون في قلوبهم أحلاما مهشمة وآمالا ضائعة ووهما مشتركا..،لم يكن في تلك اللحظة سوى صوت الرياح يحمل معه قصصا من الفقر والقهر واصوات قلوب يخفقها الخوف والمغامرة، حاملين اعمارهم على كفوفهم ممتطين خيول المخاطر نحو المجهول المغري، باحثين عن بصيص من الضوء في ظلام واقعهم القاسي.. إنه ليس مجرد عبور للحدود، بل هو صرخة ألم يطلقها شباب أرغمتهم الظروف على التخلي عن كل شيء في سبيل حلم حتى وإن لم يتحقق.
ومن المؤكد أنه تم اعتقال العديد من المشاركين في هذه المحاولة اليائسة، كما وقد تعرض البعض منهم للترحيل إلى مدن أخرى بعيدة، بينما أبدى هؤلاء الشباب إصرارهم على مواصلة المحاولات رغم المخاطر الكبيرة التي تواجههم. السلطات الإسبانية بدورها كثفت وجودها الأمني في سبتة، مستعينة بمدرعات وطائرات هليكوبتر لمنع المهاجرين من تجاوز الحدود.
وفي واقع الأمر، فإن المشهد يعكس تعقيد الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع بالشباب إلى مغامرات محفوفة بالمخاطر بحثا عن أفق جديد، وسط انتقادات لفشل السياسات الحكومية في معالجة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة.
هؤلاء الشباب، الذين دفعتهم الحاجة والظروف القاسية إلى المخاطرة بحياتهم، لم يعبأوا بالخطر المحدق بهم. كانوا يتحدثون عن المستقبل كما لو كان قريبا، وكأن المسافة بين البؤس والأمل لا تتجاوز تلك الحدود الضيقة بين الفنيدق وسبتة. ولكن بين هذه الكلمات المملوءة بالشوق، كانت القوات الأمنية تراقب وتترصد، وكأنها تعرف أن خلف كل خطوة هناك قلب ينزف خوفا وحلما مكسورا.
لم تكن تلك الليلة الأولى التي يشهد فيها البحر محاولات للعبور، ولكنها كانت من أكثر الليالي حزنا وألما. العشرات تم اعتقالهم، والبعض تم ترحيلهم إلى مدن بعيدة، وكأنهم يحاولون إبعاد الألم عن عيون الآخرين. لكن الألم الحقيقي يكمن في قلوب هؤلاء الشباب، الذين يحملون في صدورهم قصصاً من الفقر واليأس، وقسوة الحياة التي دفعتهم إلى البحث عن أي نافذة للنجاة.
بينما كانت السلطات المغربية والإسبانية تتكاتف لمحاربة “الحريك”، كانت أرواح هؤلاء الشباب تتلاشى شيئا فشيئا، ولم يبقَ لهم سوى الأمل المتهالك في حياة كريمة، بعيدة عن جدران الفقر والإحباط.
وفي النهاية، تبقى قصص هؤلاء الشباب عالقة في الأذهان، كجرحٍ غائر لا يلتئم. خلف الحدود، لم يكن الحلم بانتظارهم كما تخيلوا، بل كان الألم أكبر من كل ما واجهوه. ومع كل محاولة عبور، تتلاشى الأرواح وتبقى الأسئلة تردد في الهواء: إلى متى سيظل الفقر واليأس يسرقان شبابنا؟ وإلى متى ستظل الحدود تفصل بين الإنسان وكرامته؟ هي ليست نهاية القصة، بل بداية لألم جديد، يحمل معه أصوات من ضاعت أحلامهم في عتمة الليل وعلى أعتاب الغربة.. غربة وطن وغربة هوية .