نواصل سلسلة المقالات التي خصصناها منذ ربيع 2024 لتيمة الذكاء الاصطناعي.
ننتقل الان الى التعريف بكتاب “أخلاقيات الذكاء الاصطناعي”، وهو واحد من أكثر الكتب إثارة للجدل والتدبر.
يقف مؤلف الكتاب مارك كوكلبيرج عند عتبة عالم تتصاعد فيه الآلات إلى مستويات غير مسبوقة من الفعالية والقدرة على التعامل مع الأمور البشرية.و إذا كان هذا الكتاب يثير الإعجاب بسعة معارفه، فهو أيضًا يسائلنا عن الفضاء الأخلاقي الذي يجب أن يُخصص لهذه التقنيات المتقدمة.
من المفيد أن نفكر في تأثير الذكاء الاصطناعي على حياتنا، وكيف يمكن أن يعيد تشكيل معاني المسؤولية، الخصوصية، والعدالة سيما و ان قضايا الذكاء الاصطناعي تتخطى حدود الفائدة العلمية لتطرح أسئلة وجودية وأخلاقية عميقة، خصوصا و نحن نتحدث عن تفاعل الإنسان والآلة.
- المقدمة العامة حول الكتاب
هذا الكتاب الماتع يناقش مجموعة من القضايا الفلسفية والأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. و ينطلق من فرضية مؤداها أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو نظام قد يهدد بإعادة تعريف ما يعنيه أن نكون بشرًا. ولعل هذه الرؤية تعزز الأسئلة حول مدى قدرة الآلات على تجاوز البشر ليس فقط في الكفاءة، بل أيضًا في تحديد القيم والأخلاقيات.
وإذا كان الكتاب يعكس اهتمامًا أكاديميًا فلسفيًا عميقًا، فإنه لا يخلو من اللمسات الساخرة التي تستهدف فضح مفارقات العالم الحديث، الذي يهلل للتكنولوجيا دون أن يتوقف للتفكير في تداعياتها و عواقبها الطويلة المدى.
هل يمكن أن نثق في الآلات لاتخاذ قرارات مصيرية؟ وهل هذه الآلات فعلاً “أخلاقية” ، أم أنها مجرد برامج تنفذ أوامر محددة مسبقًا؟
سؤالان اساسيان يطرحهما هذا الكتاب.
- التكنولوجيا والفجوة الأخلاقية
لا شك أن التكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولا أحد ينكر الفوائد الكبيرة التي قدمها الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الطب والنقل والتعليم. و من المفيد أن نتأمل كيف يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون سيفًا ذا حدين؛ فهي من جهة تُسهم في تحسين حياة البشر بشكل غير مسبوق، ولكن من جهة أخرى، قد تتسبب في آثار مدمرة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وحتى الأخلاقي.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد تطور ليصبح قادرًا على اتخاذ قرارات تبدو “عقلانية”، فإن السؤال الذي يطرحه الكتاب هو: من يتحمل المسؤولية عندما تتخذ هذه الآلات قرارات خاطئة؟ و هل يمكن مساءلتها كما يُساءل البشر؟ و بالتالي، يطرح الكتاب قضايا أخلاقية مثل مَن يتحمل عواقب الخطأ عندما يكون الذكاء الاصطناعي هو المنفذ الرئيسي.
- الذكاء الاصطناعي ومسألة الخصوصية
الخصوصية هي تلك القيمة الإنسانية الأساسية التي كافح البشر للحفاظ عليها على مر العصور، و هي تتعرض الآن لأكبر تهديد لها في العصر الحديث. و يوضح الكاتب أن الذكاء الاصطناعي قد يبدو محايدًا في الظاهر، ولكنه في الواقع يمثل خطرًا كبيرًا على الخصوصية. و في هذا السياق من المفيد التفكير في الطرق التي يمكن من خلالها استغلال الذكاء الاصطناعي لجمع وتحليل البيانات الشخصية دون موافقة واضحة.
ولعل أبرز ما يثير المخاوف هو قدرة الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالسلوكيات البشرية بدقة متزايدة، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للاختراق في حياتهم الشخصية والمهنية. وبالتالي، تتجدد الأسئلة حول الحاجة إلى أطر قانونية صارمة تحمي الأفراد من استغلال بياناتهم بطرق قد لا يكونون على علم بها.
- التحيز في قرارات الآلات
ان إحدى المشكلات التي يناقشها الكتاب هي مسألة التحيز في الخوارزميات. فإذا كان البشر يتحيزون، فإن الآلات قد تتعلم نفس التحيزات إذا كانت بياناتها مستمدة من بيئات غير عادلة. وإذا كان البعض يظن أن الذكاء الاصطناعي محايد، فإن الحقيقة المرة هي أن هذه الأنظمة قد تكون أكثر تحيزًا من البشر أنفسهم، لأن من يقوم بتصميمها وتدريبها هم في النهاية بشر يمتلكون انحيازاتهم.
إذًا، من المفيد التفكير في كيفيات تصحيح هذه الانحيازات البرمجية، و هنا يطرح السؤال : هل نحن قادرون فعلاً على إنشاء أنظمة ذكية لا تعيد إنتاج الظلم الاجتماعي والسياسي؟ و كيف نطور تقنيات ذكية تكون عادلة وخالية من التحيزات التي تعيق تقدم البشرية ؟
- القضايا الأخلاقية والسياسات
في الجزء الأخير من الكتاب، يقدم كوكلبيرج مجموعة من السياسات المقترحة التي تهدف إلى إدارة وتوجيه التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي. و لعله من المهم أن نذكر هنا أن هذه السياسات ليست حلولًا سحرية، بل هي محاولات لتجنب الكوارث المحتملة التي قد تنتج عن سوء استخدام هذه التقنيات.
ولعل أهم ما يمكن أن نستخلصه من هذه السياسات هو الحاجة إلى تشريع دولي موحد يضع قواعد صارمة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة في المجالات الحساسة مثل الأمن والرعاية الصحية. كما يشير الكتاب إلى ضرورة مشاركة جميع الأطراف المعنية، من الحكومات إلى الأفراد، في صياغة هذه القواعد.
في نهاية المطاف، يتركنا الكتاب أمام مجموعة من الأسئلة التي لا تزال تبحث عن إجابات واضحة. وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد جاء ليحل بعض المشكلات، فإنه في الوقت نفسه يخلق تحديات جديدة قد تكون أكثر تعقيدًا. و لا شك أن المستقبل يحمل الكثير من الفرص والتحديات معًا، ولكن الكتاب ينبهنا إلى أن هذه التحديات ليست تقنية فقط، بل هي أخلاقية وإنسانية في المقام الأول.
وخلاصة القول هي أن الذكاء الاصطناعي، مثل كل تقنية أخرى، لا يمكن النظر إليه فقط من زاوية الكفاءة والإنتاجية، بل يجب أن نضعه في سياق أوسع يتضمن التفكير في حقوق الإنسان والعدالة والمساواة. وإذا كان الكتاب لا يقدم جميع الإجابات، فإنه بالتأكيد يفتح لنا الأبواب للتفكير النقدي في مستقبل الذكاء الاصطناعي وما يعنيه للبشرية.
**خبير الذكاء الاصطناعي و استاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال