الرباطي والطواجين الطينية
صامت كالليل،وفي عيونه يرقد حزن قديم،أطفأته حوادث الزمان وصروف الدهر،قمحي البشرة،وعلى جبهته رست تجاعيد حفرت خطوطا عميقة،لعلها علامات تقدم في السن،ولعلها حفريات من عهد قديم.
هو وحده يعلم بالبئر ومدى عمقه،بجلباب خفيف يكشف عن جسده،رجل خمسيني فقد صوته،ولم يتبق منه غير بحة أقرب إلى حشرجة المحتضر،وفي كل مرة نشاهده في حينا،يتعثر ويسقط بسبب جلبابه الرث المهلهل،وطاقيته المثقوبة التي لاتقيه زمهرير القر،ولاشر الحر،ينتعل خفا مصنوعا من العجلات المطاطية،ومن ثناياها تطل أصابع رجليه في غير حشمة تتلصص على عتبات البيوت التي لاتقل بؤسا عن الوضع المزري للأصابع الخشنة.
عرفناه فأحببناه،ألفناه في تلك الطفولة البعيدة،وحده كان يمتلك هذه المهنة الغريبة والعجيبة،وكان يحلو لسكان حي بودراع بنسائه ورجاله ان سموه ب” بالرباط” بتضعيف الباء،نسبة إلى حرفته التي يربط فيها الطواجن الطينية المشقوقة إلى نصفين بخيط الكوردون عبر إدخال هذا الأخير في المخيط،مستعملا آلة حديدية أشبه بالمسمار ذات رأس مخروطي مثلث كرأس الأفعى تثقب بها الاواني الطينية كالقصاع الخشبية،والصحون الطينية،والقلل والخابيات،وكانت راحة يده تضغط على المسمار الكبير فتحدث صوتا أشبه بأزيز الذباب وهي تخترق المعدات الطينية والخشبية في يسر حتى وإذا كانت كبيرة الحجم يربطها بسلك دون ان يظهر عليها أي تشويه أو عيب في الأداء.فقد كان يتقن مهنته ويعشقها حتى النخاع.
كان الرباط ملح الحي،فهو شخص محبوب من طرف سكان حي بودراع،حضوره البسيط يملأ البياضات والفراغات،صمته أبلغ من الكلام،ولاتراه إلا متكئا على ركبتيه،متصفحا هذا الطاجين،متأملا هذه القصعة،متمعنا في هذه القلة،بعيون جاحظة،باحثا عن عللها،متتبعا تشققاتها.
كان يقوم بعملية جمعها والتحكم في اعوجاجاتها،حاذفا لنتؤاتها وتسوية اشكالها،كانت خيوطه توقف النزيف كما كان يقول بائع الحلزون.وشبه عمله بعمل طبيب جراح.
عرفناه ونحن صبيان لم نشب عن الطوق بعد،نرصد خطواته وتحركاته ونحن نقضي يومنا قرب “دار الضو” كان يمر قرب المنازل الواطئة مطأطئ الرأس، ومن عفته وسلامة عقله،كان لايطرق الأبواب،بل يقف قبالة العتبات،حتى تفتح البيوت أبوابها،وتنتشر الحركة،ويهرع كل واحد الى عمله،فينتظر إشارة من البعض لاصلاح طاجين او قصعة خشبية.
يسمونه “الرباط” وأسميه مرمم القلوب والجيوب،فهو يحفظ ماء وجه من فقد طاجينه أو قصعته،فمن أين لفقير بحي بودراع القدرة لشراء قصعة جديدة ،فلولاه لتفككت أسر،وهدمت عائلات ،فقد كان الطاجين أساس المطبخ،وكل ما يطهى بداخله له لذة ،البيض والطماطم،الباذنجان والقرع، لحم الرأس والتقلية،الكرعين والحمص.
كنا نحن الصغار نتبعه من حي إلى حي،ومن درب الى درب،كان يقنع بكل ماتنفحه الساكنة،إن لم يكن لدى الزبون نقود،يرضى بقطعة سكر أو حفنة شاي ،أو قليل من القديد او اللحم المجفف،لم نكن نعرف عنه غير انه يخترق شوارع حي بودراع،بنفس الصمت ونفس الجلباب،ونفس النظرات المشبعة بحزن قديم…
لاندري كيف فقد صوته؟ وكيف تجرع غصص آلام خفية لايعلم درجة ألمها إلا هو …كان آثار نعاله الممزقة ترسم خطوطا متمايلة في الأزقة المشبعة بالغبار،لم تكن له زوجة ولا اولاد،كان نكرة في عالم الفقر،لكنه فطن مبكرا إلا أن الحياة صولات وجولات،وكر وفر،كنا نود أن نسمع صوته،لكن أملنا خاب،كبرنا وكبرت احلامنا ،لكن الرباط. لم يعد موجودا بيننا،فقد ذاب كما يذوب فص ملح في الماء،كانت كل فضاءات الدروب تحن الى عهده الجميل،عهد الحرفة التي لايتقنها احد غيره ،والصوت الذي لم نعرف نبرته،اين هو الان؟ لعله يطل علينا من مكان عال ليختبر مشاعرنا إن كانت صادقة او كاذبة؟ لعله في الملكوت الاعلى …حيث روحه الطاهرة والحلوة تسكن مع العين الحور والصديقين…
تلك ايام خلت دون رجعة،ايام كتب علينا خطاها، ومن كتبت عليه خطى مشاعل.